بدأنا في الفصل الأول من الكتاب بالحديث عن كيفية التحرر من التفكير الزائد، ثم تناول الفصل الثاني أهمية عيش اللحظة الحالية فقط وأصل خوف الإنسان وأسبابه الحقيقية، وواصل تول حديثه في الفصل الثالث عن معنى السعادة الحقيقية، وخطورة الانغماس فيما يعرف بـ"الوقت النفسي"، أما الفصل الرابع فقد سلط الضوء عن المعنى الحقيقي للحياة.
وفي الفصل الخامس ساعدنا تول على اكتشاف الحياة في كل ما حولنا حتى الجماد، وتحدث الفصل السادس عن أهمية الحضور والوعي في مكافحة أثر تقدم العمر على الجسم وتقوية جهاز مناعته، وقدم الفصل السابع خيارات أخرى غير الجسد لتحقيق حالة الوعي والحضور، وأخيرا أرشدنا الفصل الثامن إلى كيفية التمييز بين الحب الحقيقي والأوهام، وفي الفصل التاسع يميز الكاتب بين مفهومي السعادة والسلام الداخلي، ويوضح كيفية تحقيق الأخير باعتباره الأكثر أهمية.
وصلنا الآن إلى المحطة الأخيرة على طريق الوصول إلى قوة اللحظة وما تمنحه لنا من وعي وحضور، لذا من المناسب الحديث الآن عن الخطوة المتممة وهي الاستسلام للحظة الحالية. ذكر الكاتب مصطلح الاستسلام في عدة مواضع من الكتاب، إلا أن الأمر قد يختلط على القارئ بين الاستسلام بمعنى الرضا وعدم المقاومة وبين الخنوع واتخاذ موقف سلبي من الأحداث.
كما تعلمنا في الفصول السابقة أنه لا حياة حقيقية إلا في اللحظة الحالية، لذلك فمن الضروري استيعاب مفهوم الاستسلام للحظة الحالية، والرضا الذي يعني تقبل ما هو قائم دون مقاومة داخلية تسفر عن صراع داخلي وضوضاء وفوضى في عقل الإنسان حتى وإن بدا على ملامحه الهدوء، وتظهر أهمية الرضا في الأوقات التي تسوء فيها الأمور ويصبح هناك فجوة بين رغبات وتوقعات العقل من ناحية وما هو قائم بالفعل.
ينبغي التمييز هنا بين مفهوم الاستسلام للحظة الحالية والسلبية والخضوع للظروف السيئة، الأمر أشبه بأن يسقط الإنسان في مستنقع من الوحل، فنحن لا ندعوك لإنكار وجود شيء غير طبيعي، أو أن تدعي سريان الأمور على ما يرام، بل يجب أن تعرف جيدا ما ينبغي عمله لتغيير الوضع غير المرغوب فيه، لكن ذلك يكون أولا بتقبل الوضع دون الانسياق وراء تصنيف العقل له بأنه "سيئ"، بعدها يأتي دور تركيز الانتباه على اللحظة الحالية وما يمكن فعله فيها للخروج من الأزمة، لكن أيضًا مع عدم السماح للعقل بأن يأخذك في دوامة الاستياء والاستنكار ورفض الواقع.
يمكن تشبيه عدم الاستسلام للحظة الحالية بالصَدَفة الصلبة التي تحمي بداخلها الأنا، ففي حال عدم الاستسلام تصبح الذات أكثر هشاشة ويتعزز الشعور بأن كل ما في العالم الخارجي يمثل تهديدا لها، وبالطبع يبدأ انفصال الإنسان عن ذاته الحقيقية القوية، بل أن تداعيات مقاومة اللحظة الحالية تظهر على الجسد في شكل توتر، ما يؤثر على أداء العديد من الوظائف الحيوية.
الاستسلام للحظة الحالية لا يتفق ما القيام بفعل إيجابي فحسب، بل أنه يعزز من أثر الفعل الذي تقوم به لتحسين أوضاعك الحالية، فعندما لا تقاوم اللحظة الحالية، تنساب الطاقة اللازمة للتغيير في عقلك وجسدك ما سيساعدك على تحمل مسؤولية تغيير الوضع القائم، لذا تأكد في المرة القادمة وأنت تشعل شمعة من أنك لا تلعن الظلام.
لكن ماذا إن تورط الإنسان في علاقة إنسانية يجد فيها ما يرفضه، أو تواجد في ظروف عمل لا يمكنه تقبلها؟ إن لم يستطع الإنسان الاستسلام للحظة الحالية ووجد أن المقاومة تعلو بداخله، عليه أن يتخذ خطوة عملية فورا، لا أن يصمت ويدع الصراعات تتفاقم بداخله، فأنت قادر على أن تقول "لا" بكل هدوء وثبات في الوقت ذاته لشخص يحاول استغلالك، أو يحاول تغييرك لما يناسبه هو لا بما يناسب قيمك أنت.
سيشعر من يتحلى بصفة الاستسلام والرضا باللحظة الحالية بتحسن كبير في علاقاته على كافة المستويات، ففي غيابها لا يمكن للإنسان أن يتقبل الآخر، بل نجده دائم الانتقاد وتصنيف البشر وإصدار الأحكام عليهم، يفيدنا مفهوم الاستسلام في العلاقات بالتخلي عن الصفات الكريهة للأنا، والتي تحاول تحقيق رغباتها غير المعلنة من خلال العلاقات الإنسانية مثل فرض السيطرة وإثبات الأفضلية وغير ذلك، فمن يتحلى بالاستسلام ربما تجده أثناء جدال ما يتخلى عن إثبات صحة رأية، لا لأنه يرى محدثه أقل منه شأنا ولا يستحق المحادثة، لكنه ببساطة يشعر بعدم حاجته لإثبات رجاحة منطقه، وضعف منطق الآخر.
والآن بعد انتهينا من عرض ملخص للفصول العشرة لكتاب The Power o Now، يمكننا تلخيص الفكرة العامة للكتاب في أهمية إدراك أن الإنسان مخلوق من روح وجسد، ولا سبيل لإدراك وجود الروح بداخلنا سوى العيش في اللحظة الحالية بكل تفاصيلها. تعلمنا استراتيجيات محددة للوعي بذاتنا الحقيقية مثل مراقبة التنفس واستشعار مجال الطاقة الداخلي، وتأمل مشاعرنا وتأمل الصمت والفراغ من حولنا، وجميعها طرق تؤدي لنفس الغاية وهي أن هناك ذاتنا حقيقية في أعماق ذلك الجسد الذي حتما سيزول يوما ما.
يعيش الإنسان في صراع دائم بين الجسد (بما فيه العقل) والروح، فحينما يرهقه الجسد بمتطلبات وأحلام وأوهام وغرائز لا تنتهي، نجد أن العودة للذات الحقيقية هي مصدر السلام الداخلي والسعادة الحقيقية، والحكمة والخير، بل أنها مصدر لصحة الجسد ذاته، ليبقى مصير الإنسان في حياته معتمدا على مدى نجاحة في الاتصال بقوة روحه، و"قوة الآن".