لم تدخر أمريكا جهدا من أجل إنهاء الكيان المنافس والذي انتهى في العقد الأخير من الألفية الماضية. وخلت الساحة أمام الولايات المتحدة الأمريكية ووضعت كل السيناريوهات لعدم قيام قوة أخرى منافسة لها من جديد وحاربت ومازالت تحارب اتحاد الجمهوريات الروسية، وكان لابد من وجود خصم جديد تحاربه أمريكا ويكون له جذور ولم تجد أمامها سوى "الإسلام".
هناك الكثير من التجارب التي مرت بها العديد من الدول الإسلامية وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء على المستوى الداخلي نتيجة تسويق وتشجيع للأفكار التي تتسم بالغلو، وذلك بالدعم غير المباشر من قوى خارجية، من أجل خلق ذرائع للتدخلات في شؤون الدول وبشكل خاص الدول العربية الإسلامية، كانت كل الأطراف تحارب بعضها البعض بتلك الجماعات، لم يكن الإسلام هو الأشد عنفا بل كان التطرف سمة في أكثر الدول تقدما في الوقت الذي كان التسامح والرحمة والترابط هو السمة الغالبة في أغلب بلدان العالم الإسلامي.
هناك حملات دولية منظمة كانت تقوم بأعمال دموية ويتم إلصاقها بالمسلمين نتيجة ارتداء أزياء معينة معروفة أنها لفصائل إسلامية لإشعال الحرب بين سلطات الدول ونشر العنف المتبادل، هذا لا يعني تبرأة الجماعات المتطرفة من العنف والدموية، لكن نتطرق هنا لمن أشعل الشرارة الأولى.
ففي بعض مناطق الجنوب بمصر تحول الصراع العقائدي إلى صراع ثأري لا علاقة له بالدين بين إحدى الجماعات المتطرفة وبين وزارة الداخلية في الثمانينيات من الألفية الماضية ولم يفلح العنف الحكومي في السيطرة على عمليات العنف والتفجيرات، كانت هناك قوى تجهض كل محاولة للتهدئة والصلح ربما لمصالح شخصية أو ضغوط خارجية، إلى أن تبنى أحد ضباط الداخلية مبادرة شخصية مع قادة تلك الجماعة المتطرفة والمقبوض عليهم داخل السجون وتم تنظيم مناظرات ونقاشات ومحاضرات عن طريق علماء الأزهر وقادة الفكر إلى أن تراجعت الجماعة عن العنف وتحول أعضائها لمواطنين صالحين في المجتمع.
لم يكن الأزهر الشريف بكل مؤسساته بعيدا عن تلك المعركة، كان لعلماء الأزهر مواقف عقلانية وغير متسرعة تنطلق من تقدير لدور الأزهر ومكانته في العالم الإسلامي كمرجعية وسطية تنبذ العنف والتطرف والإرهاب وتحث على التصدي له بالعقل والقوة في بعض الأحيان، وقد تعرض الأزهر لهجوم شرس وإتهامات من تلك الجماعات المتطرفة وتشكيك في مرجعياته ولكنه ظل صامدا متحديا تلك العواصف ناشرا الدين الصحيح الوسطي في ربوع الأرض حاملا منارة تعاليم الإسلام من أخلاق وتسامح وتحريم للتعرض للدماء والأموال والأعراض التي تخص الغير متسامحا مع غير المسلمين، ساهم الأزهر وعلماؤه في إظهار سماحة الإسلام.
واجه الأزهر في السنوات الأخيرة أكبر المحن عبر تاريخه بعد تحول المجموعات المتطرفة لكيانات دموية لا تفرق بين المسلم وغير المسلم، بل تستهدف الكثير بالقتل والذبح والتكفير واستحلال أموالهم وترويع الآمنين في العالم، لم تكن تلك التنظيمات بمقدورها لتصل ما وصلت إليه في السنوات الخمس الماضية لولا وقوف جهات ومنظمات ودول في الخفاء ورائها ودعمها بكل أنواع الدعم المادي والمعنوي لتدمير المعتقد "الدين" في المقام الأول واستنزاف كل موارد القوة لكي لا تقوم قائمة لتلك الدول، ومع كل تلك التشابكات والإتهامات الداخلية للأزهر استطاع عبور المرحلة برؤية غير مسيسة تصلح لما هو قادم.
في مقال له بجريدة "الأهرام" المصرية الحكومية بتاريخ 5 ديسمبر/كانون الأول 2014، وتحت عنوان "الأزهر ومواجهة الإرهاب" قال مفتى الديار المصرية الدكتور شوقي علام "انطلاقا من قاعدة أن الفكر السقيم لا يعالج إلا بالفكر السليم يأتي دور الأزهر الشريف في هذه اللحظة الفارقة من التاريخ في معالجة قضايا الإرهاب والتطرف، فالأزهر لم يكن يوما بمعزل عن قضايا الأمة الإسلامية، بل لم يقف مكتوف الأيدي أمام أى ظاهرة واردة من شأنها النيل من وحدة صف الأمة الإسلامية.
الأزهر هو منبر الوسطية التي استمدها من وسطية الإسلام التي توازن بين الأحكام، ومازل الكلام لمفتي الديار المصرية، فلا غلو ولا تشدد، ولا تفلت ولا تسيب، فلا إفراط ولا تفريط في الإسلام، وهذه هي روح الإسلام ومبادئه التي بُنيت على التيسير وعدم التنفير، لأن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم أو قطيعة رحم، وهذا ما ينبغي أن تكون عليه العقلية المسلمة لا أن يكون التشدد والتطرف منهجًا ومشربًا لها.
ماهية الفكر المتطرف
وقدم علام شرحا مختصرا للفكر المتطرف، الفكر المتطرف في الحقيقة ما هو إلا منهج يتشبه بالمنهج العلمي في ظاهره، دون إلمام بالتفاصيل والآليات والإجراءات الدقيقة التي يتركب منها المنهج العلمي، مما يفضي إلى نتيجة خطيرة وحالة غريبة، وهي أنه تنعكس فيه المقاصد الشرعية، فتتحول من حفظ النفس وإحيائها إلى ضد ذلك، وهو إزهاقها والتسبب في قتلها، وتتحول من حفظ المال وتنميته وتوفيره وتسخيره في رخاء الإنسان ورفاهيته إلى ضد ذلك، وهو تبديده، والعجز عن إيجاده أصلا، فيبرز لنا الفقر بكل نتائجه السلبية على التعليم والصحة والبيئة، وتتحول من حفظ العقل وحفظ منظومة تفكيره ومناهج عمله وتأمله إلى ضد ذلك، وهو تشويش العقل بضباب كثيف من المفاهيم الملتبسة، والأطروحات المغلوطة، وتتحول من نشر العمران، وصناعة الحضارة، إلى ضد ذلك، وهى حالة مزمنة من الفقر والمرض والأمية والتخلف والاستهلاكية، والتخلف عن ركب الحضارة، حتى نصير عالة على الدول المتقدمة من حولنا، وهكذا.
العلاج
وضع علام في مقاله الطريق للعلاح قائلا، إن من سبل العلاج لهذه الظاهرة تحصين المجتمع من الإفرازات التي يمكن أن توجد بسبب المتطرفين الذين يعتمدون على نظرة ضيقة للكون وللحياة، وينطلقون منها إلى تخطئة كل رأي مخالف لهم باسم الدين، ويدينون كل فكر مخالف لفكرهم باسم الدين، الأمر الذي ينتهي بهم إلى تكفير الناس، بل والنيل من أعراض العلماء، ووصمهم بصفات غير لائقة، فالغلو في الدين باب إلى التطرف الذي يقود إلى العنف والسعي إلى إلزام المخالف رأيه بالقوة، وتبني الأزهر مبدأ الاعتدال ووسطية الإسلام هو سر بقائه إلى الآن شامخًا لم تؤثر فيه حوادث الدهر، وهو سر التفاف الناس حوله، فهو الملاذ للجميع وهو الحصن والمدافع عن الدين.
بعد قراءة رؤية مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام، نلاحظ أن القضية كلها في المقام الأول قضية فكرية ومواجهات بغير السلاح المناسب بكل تأكيد ستكون النتيجة الفشل، فمن يقتل أو يسرق أو يكفر أو يتعلم أو يعلم أو يصنع أو يمارس أي من الهوايات يستخدم العقل في تسخير الجوارح الباقية في الجسم لخدمة الفكر الذي أنتجه العقل، إذا من يقتل سبق عمليه القتل تخطيط وترتيب واختيار توقيت وطرق وهذا كله نتاج عقلي، يمكن أن تواجه من صوب السلاح نحوك وتقتله قبل أن يقتلك، لكن فكرة أن هناك سبب لقتلك مازالت قائمة، لو أزلتها لن تعيش كل هذا الكم من الخوف، لم يكن رأي مفتي الديار المصرية الدكتور شوقي علام بعيدا عن رؤية بعض القيادات الأمنية التي تعايشت مع تلك الجماعات سنوات طويلة بالطرق الأمنية وشاهدت النتائج.
سياسي، اجتماعي محور اقتصادي، إعلامي، ديني، وأخيرا محور أمني، كل محور يتطلب أدوارا لكثير من مؤسسات الدولة ووزاراتها لمواجهة الإرهاب ومعالجة الأفكار التي تثير التطرف.
الجميع على قناعة أن المواجهات الأمنية وحدها غير مجدية لمواجهة التطرف، لأنها في معظم الأحوال تولد نوعا من العناد وزيادة التطرف والإرهاب، وهذا ينطبق على السياسات التي تتبعها بعض الدول من عمليات كبت للحريات وتضييق وعدم إعمال العقل، الأمر الذي يحول الأعمال الظاهرة لأعمال سرية وما يترتب على ذلك من مطاردات أمنية بلا عقل تصل بالطرف المطارد لدرجة اليأس، عندما يصل الإنسان لدرجة اليأس سواء عن طريق المضايقات الأمنية أو الاقتصادية فإنه يتحول إلى شخص طائع لمن يظن أنه يقدم له يد العون ولا يسأل إلى أين سيذهب نظرا لإرادته المسلوبة، لا يهمه وقتها مع من يعمل، بل من سيدفع له ويمكن أن يتحول إلى انتحاري أو قاتل محترف، الأمر الآخر الذي قد يدفع الشاب للانضمام للجماعات المتطرفة أوالإرهابية قد يكون نوع من الغيرة الدينية نتيجة ما يراه من اضطهاد دولي للمسلمين وتعدي على العقيدة دون أي انتصار أو وقفات من جانب الدول والحكومات الإسلامية، وهنا يفكر في الطريق لنصره دينه حتى لو كلفه ذلك حياته.
إن الأمر جد خطير ويتطلب تشريع دولي وتشريعات محلية تحترم المعتقدات والأديان وتجرم التعدي عليها وامتهانها، ونبذ العنصرية الدولية واحترام حقوق الإنسان والتوزيع العادل للثروات، إذا أردنا الحد من التطرف والإرهاب وليس القضاء عليه يجب أن تحترم الدول الكبرى مصالح الدول الصغرى، وأن يتكاتف العالم من أجل التعايش السلمي بين مكونات العالم بعيدا عن الاحتراب.
وهنا رأي لـ شفيتكين يوري نيكولاييفيتش، نائب رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، "تحتل روسيا إحدى المراتب الرائدة في العالم في مجال الخبرة في الحرب ضد الإرهاب، قبل كل شيء، نحن نواجه عمليات التجنيد في المنظمات المتطرفة المختلفة من خلال التوعية من قبل القيادات الوطنية ورجال الدين، الذين يروجون لفكر المعتقدات الدينية الصحيحة، بغض النظر عن الانتماء إلى هذا الدين أو ذاك.
كما نقوم بالعمل التوضيحي في المدراس والجامعات والتجمعات العمالية، فعلى سبيل المثال، تم تنظيم محاضرات حول مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء البلاد في أوائل أيلول/سبتمبر، حيث نشرح ما هو الإرهاب، وما هو التطرف، وما أهمية الحذر واليقظة في الحياة اليومية. كل ذلك يعتبر عملا وقائيا. وقد اقترحنا، خلال زيارتنا الأخيرة إلى مصر، إنشاء سجل موحد للأشخاص المتورطين في الأنشطة الإرهابية، ليس فقط أولئك، الذين يشتبهون بارتكاب أنشطة إرهابية بشكل مباشر، بل وكل من لهم صلات مع الإرهابيين. ويتم العمل على إنشاء هذا السجل وتجديده. وسيكون متاحا لمخابرات جميع البلدان من أجل العمل المشترك في مكافحة الإرهاب. إضافة إلى أهمية اليقظة من جانب السكان المدنيين. ولدينا بنية نشطة في هذا المجال، مثل اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب، التي تجري العمل الإيديولوجي الوقائي، بما في ذلك مكافحة الترويج للإرهاب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي بين الحركات الشبابية المختلفة. ومواقع التواصل الاجتماعي في حالتنا، أداة هامة جدا. وإضافة إلى نشاطات التوعية والتوضيح، يوجد أيضا القضاء وحظر الموارد المتطرفة والإجراءات العقابية".
من هنا يمكننا القول إن:
الفكر لا يحارب إلا بفكر، والقوة تولد الصراع.
ولكل فعل رد فعل، وقد جاء الإسلام بكل الدعوات الأخلاقية التي تحض على الرحمة وعلى حسن الخلق، جاء ذلك في القرآن الكريم والسنة النبوية، وليس هناك برهان أكثر مما ورد في السنة النبوية من الحض على الرحمة والعطف على الحيوان وارتباط ذلك برضا الله، هناك الكثير ممن يسيرون وراء أفكار وربما قشور مغلوطة بأن الدين عنيف ويجب الغلظة، وهذا ليس من الإسلام في شيء كما ورد في القرآن من الحث على مقابلة السىء بالحسن والجدال بالتي هى أحسن وعدم تسفيه معتقدات الآخرين، ولا قتال إلا ضد المعتدي وحرمة الدماء والأموال، وأن النفس البشرية أعظم عند الله من البين الحرام بمكة المكرمة… ما يحدث الآن هو سيناريو مدعوم خارجيا وداخليا لتشويه صورة الإسلام وبكل أسف انساق ورائه الكثيرين.
في النهاية… على العالم العربي والإسلامي أن يعليا من قيمة المعتدلين وأن يرصد جزء من الأموال لهم لنشر الاستنارة وعدم المواجهة بالعنف، لأن الحروب تنتهى على طاولة الحوار.
(المقال يعبر عن رأي كاتبه)