ظاهرة "الأطفال بلا مأوى" أو كما يطلق عليه بشكل عام أطفال الشوارع من أخطر الأمراض التي تصيب المجتمع وتشرع له قوانين غريبة نظرا لأن طفل الشارع لا قيد عليه، فقد نشأ في بيئة مليئة بكل آفات الحياة فلا مدرسة ولا بيت ولا أسرة ولا قيم، بل تلقفه الشارع وزرع فيه قانونه الإستثنائي، لا ألقي هنا اللوم على طفل الشارع فلا ذنب له فهو ضحية لتفكك أسري نتيجة انفصال الأب والأم أو غياب الأب والأم لظروف قهرية في ظل عدم وجود أقارب، وفي حالات أخرى يدفع الفقر والعوز الأسرة لترك أولادها للشارع في ظل عجزهم عن توفير متطلبات الحياة اليومية.
المشكلة معقدة
المشكلة معقدة ومركبة ولها جوانب كثيرة وتعود سلبياتها على المجتمع ككل وليس الأسرة، فطفل الشارع عرضة للأمراض الخطيرة بكل أنواعها بل ونشرها، كما إنه مشروع إرهابي وبلطجي ولص وتاجر مخدرات وسموم، بل ويمكن أن يبيع كل شيء حتى الوطن الذي لم يرى منه سوى القسوة والحرمان، ظاهرة أطفال الشارع هى قنابل موقوته ربما نستطيع السيطرة عليها مبكرا بالرفق واللين واحتواء هؤلاء الأطفال واحتضانهم وتنمية الولاء لديهم ورعايته وتحويلهم من مشروع منحرفين إلى مواطنين صالحين.
"سبوتنيك" قامت بجولة داخل دار الفتيات بحي العجوزة بالعاصمة المصرية القاهرة وهى أقدم وأول دار إيواء تقدم الرعاية للأطفال بلا مأوى والتى تم إنشاؤها فى عام 1930، بعد التبرع بالمبنى عن طريق إحدى أميرات الأسرة المالكة لرعاة أبناء السبيل فى القاهرة، ثم تحول الوقف لدار الفتيات فى الستينيات، لتسند أعمال الدار لجمعية الدفاع الاجتماعى فى الثمانينيات، وتضع الدار سياسة حماية الطفل من الإساءة، من أجل توفير بيئة آمنة للأطفال وحمايتهم من كل أنواع الإساءة والعنف والاستغلال.
وتعد الدار هى الأولي بهذا المستوى بعد تطويرها ضمن برنامج "حماية الأطفال بلا مأوى" لإعادة دمج الفتيات بلا مأوى أو اللواتي يتم إيداعهن من قبل النيابات، وتبلغ مساحة الدارحوالى 5776 متر مربع وتحتوى على مبنيين ومساحات خضراء وملعب، بعد التطوير ارتفعت السعة الاستيعابية للدار من 100 فتاة إلى 250فتاة، وجاء هذا التطوير ضمن مشروع حملة أطفال بلا مأوي والتي تبلغ موازنتها 164 مليون جنيه، وينفذ فى عشر محافظات هم الأعلى كثافة من حيث عدد الأطفال الذين بلا مأوى ويبلغ عددهم 12.772 طفل.
تعرفنا خلال جولتنا على مجموعة من القصص وكيف تقوم الدار برعاية تلك الفتيات وتعويضهن عن فقدان الأسرة وتنشأتهن كمواطنات صالحات سواء منهن من أتين طواعية أو اللاتي يأتين من النيابات.
دموعي لم تجف
تروي أميرة ذات التسعة عشر ربيعا وهى إحدى نزيلات الدار وتتمتع بقدر من الجمال قصتها وكيف وصلت إلى الدار وما الذي تشعر به بعد خطبتها وإقتراب موعد زفافها، سوف أتزوج في الاسكندرية بعد سنوات قضيتها في الدار ولن أعود إلى أهلي ولن أخبرهم بمكاني بعد الزواج حتى لا يدمروا حياتي مرة أخرى.
رغم المعاناة التي عاشتها أميرة داخل أسرتها الممزقة نتيجة انفصال الأب والأم قررت ألا تستسلم وأن تبدأ حياة جديدة وتكون أسرة مختلفة عن أسرتها وأن تنجب أطفالا ولا تتركهم فريسة للصراع الأسري أو تشردهم بالشارع.
لم استطع العيش
أتيت إلى الدار بإرادتي منذ 5 سنوات بعدما إنفصلت أمي وأبي وتزوجت أمي وتزوج أبي، فأصبحت ضائعة في المنتصف أنا وإخوتي الآخرين، فأنا أكبر أفراد الأسرة التي تعيش في المنصورة ولم يسبق لي أن جئت إلى القاهرة ولكنني قررت البعد عن كل شيء، استقليت السيارة بعد هروبي من المنزل بالمنصورة واتجهت للقاهرة ولم أكن أعرف أحدا فطلبت من السائق أن يصف لي الدار فقام بتسليمي لقسم الشرطة والذي قام بدوره وأتى بي إلى الدار بعدما أخبرته أنني لا أستطيع العيش مع أهلي.
شعرت بالدار بالحنان والعطف الذي فقدته لدى أسرتي، وأكدت أميرة أن لن تسمح بتكرار مأساتها مع أولادها مستقبلا وستجعلهم أفضل منها وأنها لن تهدم حياتها بكلمة حتى لا تندم بعد ذلك، وتتمنى أميرة أن تنجب طفلين وتقوم بتربيتهم وتعليمهم لكي يصبحوا أطباء ليخففوا الآلام عن المرضى، وتوجهت أميرة برسالة عتاب لوالدها ووالدتها وكل أب وأم بأن يحافظوا على حياتهم الأسرية حتى لا يتشرد أطفالهم ويحرموا من حنان الأسرة، فلم تجف دموعي على أختي الصغرى "احسان" والتي مازالت تعاني داخل الأسرة الممزقة وهى تصغرني عدة سنوات "كم اشتاق إليها".
ما ذنبي أن أكون بلا أسرة
وعن السبب الرئيسي لهروبها من المنزل قالت أميرة بعد انفصال أسرتي وزواج أمي أصطحبتني معها إلى بيت زوجها والذي كان يذهب بي إلى بيت والدته التي ليس لديها أحد فتدفعني للشارع لبيع "المناديل" وتعلم السرقة وهو ما لم اتحمله، لقد زرعوا بداخلي الخوف من كل شيء حتى من هم قريبين مني، لم أر الحنان من أهلي فزرعت القسوة بداخلي وأشعر بالألم كلما سمعت كلمات أم أو أب يخافون على أولادهم ويقدمون لهم النصح، وتسآءلت أميرة ماذنبي أن أكون بلا أسرة بلا حنان بلا عطف، بقدر حزني وألمي إلا أنني سعيدة بوجود الدار التي أنقذتني من الضياع في الشارع.
معرض المنتجات
أسماء عاطف مديرة المعرض في دار الفتيات بالعجوزة، قالت إن الدار بها مجموعة من الورش التي تقوم بتعليم الفتيات المقيمات بالدار العديد من الحرف المناسبة لهن من خياطة وتطريز وحرف يدوية أخرى كالخزف والعديد من المنتجات الجميلة، فأقمنا هذا المعرض لعرض منتجات الدار للجمهور وبأسعار لا تقارن بالخارج وتبدأ الأسعار من 50 قرش للمباخر إلى 300 جنية لمنتجات أخرى.
تعويض الأمومة
فادية نورالدين مدير مؤسسة الفتيات بالعجوزة قالت إن قانون الطفل الجديد راعى في كل جوانبه النواحي الإنسانية للطفل في الوقت الراهن ومستقبلا وأوكل دور الرعاية إلى وزارة الشؤون الإجتماعية، فتحولت دور الأحداث سابقا إلى ما يشبه المدينة الجامعية أو دور المغتربات وبيوت الشباب، مؤكده على مبدأ راسخ لدى المؤسسة وكل مؤسسات الرعاية وهو أن الطفل لا ذنب له أنه جاء إلى هذا المكان لذا فمن واجبنا أن يتسم من يقومون على أمر هؤلاء الأطفال بالرحمة والعطف والإنسانية وحب هذا العمل.
وأرجعت مدير المؤسسة تلك الحالات إلى التفكك الأسري وحالات الطلاق المتزايدة وعدم مقدرة الأقرباء على تحمل غير أولادهم، فتأتي الفتاة إلى هنا لتجد العطف والأمومة وليس القهر والعنف والعدوان، نحاول أن نجعل من الدار منزل أسري به كل مقومات الحياة الطبيعية لإخراج فتاة صالحة.