بعض المجتمعات العربية، التي كانت ظاهرة زواج القاصرات فيها أمر عادي يحدث كل يوم، تمكنت من إحداث حراك كبير، وقاومت الظاهرة، وبعضها نجح أو كاد، فمصر على سبيل المثال، رفعت سن زواج الأنثى إلى 18 عاما، ولا يمكن توثيق زواجها قبل هذا التاريخ، حتى أن القانون لا يكتفي بمعاقبة الأب والزوج فقط، بل أيضا يعاقب "المأذون"، وهو الاسم الذي يطلق على موثق الزواج الشرعي.
اليمن
في مجتمعات أخرى، وخصوصا تلك التي تعاني حروبا أو نزاعات داخلية، تستفحل الظاهرة، فنجد اليمن على سبيل المثال مرتعا خصبا لكل من يريد أن يتزوج طفلة، حتى إن إحدى الدراسات، أعلنتها جامعة صنعاء منذ عامين، قالت إن نسبة زواج الفتيات الصغيرات في اليمن، بلغت 66% من حالات الزواج ككل، وأكثر من ثلثي هذه النسبة تحدث في المناطق الريفية.
في اليمن، قصص كثيرة انتشرت خلال الأعوام الماضية، عن حالات زواج قاصرات من رجال مسنين، حتى إن الفتاة "نجود الأهدل"، وهي صاحبة القصة الشهيرة بالزواج من رجل يكبرها بنحو 20 عاما، والتي أصدرت كتابا تحكي فيه تجربتها وهي في سن السادسة عشر، والتي حازت في 2013 على لقب "امرأة العام"، ما زالت حتى الأن تحوز على لقب "أصغر مطلقة في العالم"، بعدما صارت مطلقة قبل بلوغها سن العاشرة.
"زواج القاصرات هو شرعنة ممارسة الجنس للأطفال!"
— Jaafar Abdul Karim (@jaafarAbdulKari) December 5, 2017
عراقية تصرخ بحرقة قلب ردا على تبرير زواج القاصرات.
تابعوا حلقة #شباب_توك اليوم الساعة 9 مساءً بتوقيت #بغداد pic.twitter.com/G2nyN6Wzc4
ولمن لا يعرف قصة نجود، فهي فتاة يمنية، تزوجت وهى طفلة، وطلقها زوجها وهي في العاشرة من عمرها. قالت نجود عن تجربتها
"ذات يوم، وبعد عودتي من المدرسة، جردني أبي من حقيبة الكتب وأعطاني ملابس جديدة وكثير من الهدايا والألعاب، ومنعني من الذهاب إلى المدرسة في اليوم التالي.. وبعدها بأيام ألبسني ملابس بيضاء، وذهب بي إلى محافظة حجة شمال اليمن بحجة زيارة أقاربنا.. ثم تركني في بيت لا أعرفه".
وتضيف "بينما أنا منشغلة باللعب، جاء رجل كبير وحاول أن يغتصبني بالقوة، أو هكذا تصورت أنه يغتصبني، وصرخت وأنا أبحث عمن ينقذني منه، لكنه نادى أمه وأخته، لتخبراني أن هذا الرجل هو زوجي، ولأنني لم أفهم وقتها ما يعنيه هذا الأمر، أمسكتا بي ودخل هو بي، إلى أن وجدت نفسي ملقاة على الأرض فاقدة للوعي".
نجود استيقظت من نومها في المستشفى، في صباح اليوم التالي، حيث كانت مصابة بالنزيف، وتم نقلها إلى مستشفى أخر في صنعاء، وهناك التقت بإحدى المحاميات المدافعات عن حقوق المرأة، والتي ساعدتها على الطلاق، وكذلك ساعدتها على التعافي نفسيا من أزمتها، رغم أنها ما زالت تعاني بعض الآثار النفسية جراء هذه التجربة الصعبة.
ولكن اليمن الأن يمتلئ بالمئات من أمثال نجود، فتيات في عمر الزهور، فجأة وجدن أنفسهن في بيت غريب مع رجل غريب، وهذا الرجل هو الزوج وله حقوق يصر على الحصول عليها من هذه الطفلة الواهنة. يقول الدكتور مسعد المزين، وهو طبيب في إحدى المستشفيات في صنعاء، لـ"سبوتنيك"، إن مئات الحالات تأتيه كل أسبوع، بعضهن مصابات بالنزيف بسبب العنف الزوجي، والبعض الأخر يحملن في أرحامهن أطفالا، وهن ما زلن أطفالا بدورهن.
طلبنا من د. مسعد المزين أن يوصلنا بإحدى الحالات، التي تزوجت بينما هي قاصر، فكانت المفاجأة أنه متواجد مع سيدة ابنتها مصابة بنزيف حاد، لأنها تزوجت ليلة أول من أمس، الأحد، ولم تحتمل الممارسة الزوجية.
قالت السيدة لـ"سبوتنيك"، إن ابنتها، البالغة من العمر 11 عاما، لم تعد تذهب إلى المدرسة منذ عامين، بعدما تفاقمت الأزمات الاقتصادية، وبسبب ظروف الحرب الدائرة في اليمن، لذلك فضل عمها أن يزوجها من ابنه، بزعم سترتها، لأن والدها مات منذ عام ولم يعد لدى أسرتها رجل يدافع عنها، وبالفعل تم عقد القران والزواج منذ يومين، ولكنها فوجئت بالزوج يخبرها بأن ابنتها مصابة بنزيف ويجب نقلها إلى المستشفى فورا.
سوريا
ولا تقتصر الأزمة على اليمن فقط، ففي شهر أغسطس/ آب من العام الماضي، كشفت دراسة نشرها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، في موقعه على الإنترنت، أن نسبة تزويج القاصرات في سوريا قبل أحداث الحرب كانت تصل إلى نحو 7% من عدد القاصرات، ولكن ظروف الحرب جعلت هذه النسبة ترتفع، إلى أن بلغت 15% في 2012، وتجاوزت الـ30% في العام 2015.
أما وزارة العدل السورية، فقد نشرت إحصائية، قالت فيها إن عقود زواج القاصرات بلغت 10% من الزيجات المسجلة في المحاكم الشرعية في دمشق في 2013، وتزيد النسبة كثيراً في مناطق الأرياف البعيدة عن العاصمة، بينما الزيجات غير المسجلة في المحاكم الشرعية فتمثل عقود زواج القاصرات 60% منها.
ووفق منظمة الأمم المتحدة، تتباين نسبة تزويج القاصرات بين دولة وأخرى من دول اللجوء. ففي الأردن، هناك 35% من مجموع زيجات اللاجئات السوريات زواج مبكر، بينما 32% من حالات الزواج بين اللاجئين في لبنان لفتيات تحت سن الـ18 عاما، وبلغت النسبة 25% من القاصرات السوريات في مصر.
ارتفع معدل #زواج_القاصرات في #سوريا بدايةً من 2016 من 7% إلى 30%، بحسب تقرير أعده المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية | https://t.co/7AlTWolfgb pic.twitter.com/pN9ePgOl5I
— منشور (@manshoor) January 12, 2018
وحسب المحامي السوري إحسان الزعبي، فإن القانون السوري وضع خطوطا رئيسية تتعلق بمسألة السن القانونية للزواج، حيث أن المادة 16 من قانون الأحوال الشخصية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 59 بتاريخ 7 سبتمبر/ أيلول 1953، نص على أن العمر المناسب للزواج بالنسبة للفتى هو 18 عاما، وبالنسبة للفتاة هو 17 عاما.
ولكن هناك نقطة أخرى حملها القانون، هي ما يمكن التحايل من خلالها، حيث أن هذا القانون يسمح بزواج الفتاة في سن 13 عاما، والفتى في سن 15 عاما، إذا احتمل جسداهما الزواج وكانت لديهما نية حقيقية لبناء أسرة، وترك تقدير هذه القدرة والنية للقاضي، الذي أصبح يملك سلطة تحديد قدرة الجسد على احتمال الزواج من عدمها.
الزعبي تحدث لـ"سبوتنيك" عن إحدى الحالات المفزعة في سوريا، والتي ارتبطت بفكرة تقدير القاضي لقدرة جسد الفتاة على تحمل الزواج، وهي قصة فتاة تدعى "ياسمين"، تبلغ من العمر 15 عاما، ولديها طفل وتحمل الأخر في رحمها.
عم ياسمين، شقيق والدها، وافق على زواجها من رجل يبلغ من العمر ما يزيد عن 50 عاما، ويسكن إحدى ضواحي العاصمة دمشق، والسبب الوحيد للموافقة على هذا الزواج كان أن العريس يملك أن يدفع مهرا كبيرا، أسال لعاب عمها، الذي بادر لتزويجها له على الفور.
يقول الزعبي
"اكتشفت ياسمين بعد الزواج أنها زوجة ثالثة وليست أولى، واكتشفت أيضا أن الزوج الذي عرض مهرا كبيرا، ليس سوى متسول ويدير شبكة للتسول، تتكون من زوجاته وأبنائه، وبالطبع ضمها إلى هذا القطيع، حتى بعد أن أنجبت منه ابنا، فأصبحت تجدها تلاحق المارة في شوارع دمشق لتطلب منهم نقودا، فهي إذا لم تعد له بالمال، لن يتركها تبيت مع زوجاته الأخريات، وسيتركها هي وطفلها في الشارع".
ليبيا
تشهد ليبيا نفس ما تشهده اليمن وسوريا، حيث تتزايد حالات الزواج المبكر فيها بقوة، خاصة بعد أحداث الربيع العربي التي بدأت هناك في فبراير/ شباط 2011، والتي أدت في النهاية إلى سقوط نظام العقيد معمر القذافي، وأعقبتها فترات طويلة من عدم القدرة على السيطرة على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية أيضا هناك.
يوضح السياسي الليبي باقي العلي، أن نسبة الزواج المبكر في ليبيا كانت كبيرة قبل أحداث فبراير/ شباط 2011، ولكنها لم تكن تصل إلى هذه النسبة من الخطورة التي نشهدها حاليا، والتي عجزت مؤسسات الدولة عن إصدار تقارير مفصلة بها، فمنذ فترة طويلة جدا لم نشهد أي إحصائيات رسمية عن نسب الزواج المبكر في ليبيا، والسبب في ذلك هو عدم وجود حكومة واحدة تستطيع جمع كافة الأراضي تحت سيطرتها، وتمزق الأرض بين أكثر من جهة وطرف.
#ليبيا_الآن | بحثت جمعية لماذا أنا لحقوق المرأة في #طرابلس إطلاق حملة للحد من زواج القاصرات بحضور ناشطين وإعلاميين و مؤسسات المجتمع المدني. pic.twitter.com/YeRzU2DPr2
— ليبيا الآن (@libyaalaan) February 20, 2017
يشير العلي إلى أمر — يراه خطرا — وهو أن حالة التمزق التي تشهدها البلاد، والتي تجري الجهود حاليا على إصلاحها في وجود جيش قوي، جعلت بعض الفتيات القاصرات يتطلعن بأنفسهن إلى الزواج من أول غريب يطرق الباب، ظنا منهن أنهن سيكن في مأمن من الأزمات في بيوتهن، حتى أن بعضهن يرين في الزواج طريقا للانطلاق والحرية، وهي رؤية بالطبع لا تستوعب وجود مسؤولية كبيرة في الزواج.
ويروي السياسي الليبي قصة ابنة أخته، ذات الـ14 عاما، التي تقدم لها أحد أبناء العائلة، وهو في الـ25 عاما من عمره، ولدهشة الجميع وافقت البنت وتزوجته، ظنا منها أن بهذه الطريقة تحقق الاستقلالية لحياتها، وهو ما تأكدت أنه كان وهما، ولكن بعد فوات الأوان.
ويضيف:
"فوجئنا بالفتاة تلجأ إلى الأسرة من جديد وتطلب الطلاق، وصارحت الجميع بأنها كانت تتصور أنها ستكون أكثر حرية بعد الزواج، ولكنها وجدت أن مسؤولية المنزل أصبحت على عاتقها وحدها، بعدما كانت هناك من تحمل هذه المسؤولية في بيت أبيها، وبالطبع كان من العسير تلبية المطلب، لسببين، الأول هو أنها تحمل على كتفها طفلا يحتاج لأبيه، والثاني أن الزوج غير مسؤول عن رؤية زوجته الخاطئة للزواج، وهي الأن تعيش معه مرغمة".
ورغم تعدد حالات الزواج للقاصرات في العالم العربي، بعضها مما يمكن وصفه بـ"الحالات الفردية"، وفي البعض الأخر تتطور الأزمة لتصل إلى حد الظاهرة، إلا أن كثير من المنظمات الدولية سواء المستقلة أو التابعة للأمم المتحدة، والمعنية بشؤون المرأة والطفل، تبذل مزيدا من الجهود من أجل القضاء على هذه الظاهرة.