لكن هذه لم تكن النهاية أبداً، فسرعان ما وجد قراء جدد طريقهم إليها بحثاً عن متعة وفائدة لا تخلو من مغامرات، ومن يدري لعلّ انتشار الكتب في الشوارع وقريباً من التجمعات كما هو حال سوق الوراقين في دمشق وسوق الأزبكية في القاهرة، يُفسح المجال للاطلاع على كنوز حقيقية بتكاليف بسيطة، تقدّم نفسها للمارّة بلا مواربة.
يقع سوق الوراقين الدمشقي بموازاة كراج "جسر الرئيس"، واحدٌ من أكثر الأمكنة ازدحاماً بشكل يومي، ومع أن طريقة عرضه للكتب تبدو مقبولة لكثير من الناس لكنها مستهجنة بالنسبة لـ "أبو طلال" أحد البائعين فيه، فعلاقة الرجل بالكتاب لا تقتصر على البيع إطلاقاً، منذ زمن طويل اعتاد القراءة، إلى أن صار ارتباطه بالكتب وثيقاً كما يشرح في حديثه لـ "سبوتنيك"، لافتا إلى أن مهنته تناسب محبي المطالعة بشكل خاص وتتيح لهم أن يلبوا رغبتهم بالحصول على كتب جيدة، إضافة إلى دخل مادي جيد يعود عليه.
قبيل الحرب الأخيرة على سوريا، شهدت العاصمة مراكز عدة شبيهة بتجمع الوراقين، ضمت أعداداً كبيرة من الكتب والمجلدات والمجلات القديمة إضافة إلى الكتب الجامعية على اختلاف الاختصاصات حتى أنه بالإمكان العثور على كتب نادرة ضمنها، وهو ما أصبح متاحاً من جديد في السوق، كما يؤكد "أبو طلال"، علماً أن الغاية من بيع الكتاب المستعمل ليست المال أبداً، ففي معظم الأحيان يعود السبب إلى ضيق المكان، لذا يلجأ أصحاب الكتب لبيعها ويقوم البعض بتبديل كتبه بأخرى ذات مواضيع مختلفة، من دون أن ننسى ما آلت إليه مكتبات حكومية وخاصة في الحرب، بعضها أحرق وأتلفت محتوياته، وكان التهريب والسرقة مصير عدد كبير منها.
يقول أبو طلال:
"الكتاب لدينا موضوع على الأرصفة في حين توضع بضائع استهلاكية أقل شأناً وفائدة على الرفوف، لتلقى العناية والاهتمام من أصحابها، هذا انعكاس للحالة الثقافية عموماً ولما وصلت إليه من إهمال وتراجع في وقت يُفترض أن نشجع الناس على القراءة لتشكيل وعي حقيقي والنهوض بمجتمعنا. ومن اللافت ما يراه الرجل عن الكتب الجديدة التي تفتقد برأيه إلى مزايا عدة أهمها أنها لا تلبي حاجة القارئ المثابر والمثقف الباحث عن أسلوب أفضل للعيش والواعي لما يحصل حوله!".
أما بالنسبة لـ "صلاح صلوحة" واحدٌ من أقدم بائعي الكتب في المدينة، فالبيع على الرصيف ليس أمراً جديداً بالنسبة إليه، وعلى حد قوله فقد بدأ من الرصيف وانتهى إليه مجدداً بسبب الظروف التي مرت بها البلاد، وفقد خلالها مكتبته التي كان قد افتتحها قبيل الحرب في (مخيم اليرموك الفلسطيني) جنوب دمشق، إلى أن استولى عليه المسلحون المتطرفون.
يؤكد "صلوحة" محبته لمهنته وشغفه بها لدرجة أصبح الكتاب توأمه، واصفاً الكتب بأنها غذاء الروح، لكنها كالسمك في البحر، ولكل إنسان اختيار ما يرغب، وهنا يشرح تنوع مصادر الكتب لديه، بعضها يأتي من ورثة المثقفين والأدباء الذين لا يقدّر معظمهم قيمة ما لديه، وهناك ما يضطر المسافرون أو الراغبون بتغيير السكن للاستغناء عنه، وإن كان ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن أيّ كتاب سيجد من يشتريه.
يضيف "صلوحة": "نقوم بفرز الكتب وتصنيفها تبعاً لأهميتها وندرتها ومدى الإقبال عليها، وهناك بالتأكيد ما يذهب لمعامل الكرتون ليتم الاستفادة منه بطريقة أخرى".
أما زوار السوق فهم من الباحثين عن الكتب القديمة التي لم تعد تطبع ومحبو القراءة من الدؤوبين دون إرهاق جيوبهم بمزيد من المصاريف.