ولكونها مدينة، كان هناك حاجة لتشييد مبان سكنية وخدمية داخل القلعة: كالحمامات والطاحونة ومقار دينية كالكنائس التي تحولت فيما بعد إلى مساجد، بالإضافة إلى كونها مقر الحكم وإقامة الحاكم.
رمزا الموت والولادة
يعد القصر الملكي من أجمل القصور التاريخية في قلعة حلب، ويسمى دار العز أو دار الذهب.
يتألف القصر الذي تعرض للحريق في ليلة زفاف الظاهر غازي على ضيفة خاتون، وقد تم ترميمه مع العديد من المباني في عهد المماليك، نتيجة تدميرها على يد هولاكو (1254م) وتيمور لنك، وتم وضع العديد من الرموز بعضها يرمز لدولتهم وأخرى ذات دلالات طقسية عقائدية.
يقول الباحث في الآثار أحمد غريب، إن القلعة عاصرت كل الحقب الزمنية فقد ترك من بناها ورممها الكثير من الرموز التي تخفي في بواطنها ذلك المنتج الثقافي والروحي الذي وشّح بالمجد والأصالة، ويضيف في حديثه لـ "سبوتنيك": "أول ما يلفت الانتباه في قلعة حلب هو البرج المتقدم للقلعة والذي هدم غير مرة ورمم أخيراً من قبل الأمير المملوكي قانصوه الغوري في عام 1512 ميلادي، ووضع في واجهته من الخارج عدة رموز تشير إلى الدولة المملوكية، لاسيما قرصا الشمس عن يمين وشمال السقاطة".
وهذا الرمز موغل في القدم فقد استخدم في العهد الروماني، وكان يرمز إلى الولادة والموت، فإذا كانت أشعة الشمس مع عقارب الساعة فهو رمز للولادة أما إذا كانت أشعة الشمس بعكس عقارب الساعة فهو رمز للموت، أي رمز شمسي والآخر قمري، على اعتبار أن بزوغ الشمس يبشر بولادة يوم جديد أما القمر فظهوره يعني انتهاء اليوم وموت الشمس ويردف قائلاً: "قد استخدم هذا الرمز في العهد المسيحي ورمز إليه بولادة السيد المسيح، وكثيرا ما استخدم في العهد البيزنطي وبخاصة على أبواب المدافن وأرضيات الفسيفساء".
باب التنانين
الزائر للقلعة ومع أول خطوة بعد عبوره الباب الرئيس عليه أن يتلقف سيلاً من الأشكال والرموز على الجدران وكلها ذات معان ودلالات، من أبرزها، وبعد عبور الدرج الحجري وصولا إلى واجهة الحصن الشامخة تجد في هذه الواجهة من الأعلى العديد من الأشكال المملوكية وآيات من القرآن الكريم وزخارف.
ويشرح الباحث غريب المدير السابق لقلعة حلب عن مدخل (باب التنانين) المشبع بالرمزية، فأسطورة التنين أتت من الصين وهي قديمة، ويشاهد أربعة منها ملتفة حول بعضها بحالة صراع، ويتابع: "التنين هو رمز للإله حدد من جهة ومن جهة أخرى رمز للشر، ونقش إلى يمين وشمال التنانين نجمة ثمانية وهي أيضاً رمز عشتار وهذا دليل على أن نقش التنانين هو رمز للإله حدد كون عشتار هي زوجة زيوس كما النجمة الثمانية تعبير عن حركة كوكب الزهرة ويذكر بأن مدينة بغداد لها ثمانية أبواب على عدد أضلاع نجمة عشتار وأن كلمة /ستار/ باللغة الإنكليزية تعني عشتار".
الضاحك والباكي
من جهة أخرى يظن بأن نقش التنانين هو لطرد الأرواح الشريرة، وبالتالي لدب الرعب والخوف في نفوس المهاجمين على القلعة، كما نقشت النجمة الثمانية على المسامير للباب الحديدي حيث تعد النجمة رمز للدولة الأيوبية ويذكر الباحث الأثري في معرض حديثه لـ "سبوتنيك" عن نقش مازال يثير الاهتمام (حدوة الحصان) على الأبواب الرئيسية في القلعة ويقول: "لهذا النقش رمزية طقسية هي من جهة لرد العين الحاسدة، ومن جهة أخرى كحرز وقائي، والملفت بأن كل الحدوات تتجه للأسفل باستثناء واحدة من الوسط تغاير الاتجاه، وهي مكان فتح الباب".
ومع عبورنا لباب التنانين إلى الباب الثاني وهو باب الأسدين وفيه نقش أسدين بارزين متقابلين بينهما زهرة على شكل زنبقة، حيث يمثل الأسد حامي أبواب المعابد والقلاع من الأرواح الشريرة، وبالتالي هو رمز للقوة والزنبقة هو رمز فرعوني حسب المؤرخين وكانت ترمز الزنبقة في العهود المسيحية المبكرة بالروح المتصاعدة ويضيف "غريب: "في كل المعابد القديمة كان يوضع نقش الأسد كرمز واقي وحامي، لاسيما معبد الإله حدد في قلعة حلب ومعبد عين دارة، وغيرهم حيث استمر هذا الرمز في العهد المملوكي ونشاهده في واجهة خان الوزير بحلب".
ونتابع بالدخول بما يسمى (الباشورة) إنه ممر منكسر بزوايا قائمة، وذلك بغية امتصاص حدة دخول الغزاة، حتى نصل بعدها الى الباب الثالث والأخير في الباشورة، وهو باب الأسدين الضاحك والباكي من عمل الظاهر غازي كما الأبواب التي قبله، وهنا يقرأ الباحث في رموز قلعة حلب قائلاً: "نُقش على يمين الباب وشماله تمثالين لأسدين الأول ضاحك والآخر باكي وهذه رمزية أخرى للإله حدد، حيث يرمز الأسد الضاحك للرعد والأسد الباكي للشتاء وكلا الرمزين هما لحدد، ولا غرابة في ذلك كون الظاهر غازي من العراق وهذا المنتج الرافدي نقله معه من هناك".
الكشف عن معبد "حدد"
في هذه الأثناء نعبر السوق وننعطف يمينا لنصل إلى القصر الملكي، ونجد واجهة قصر "الطواشي" ذات المدخل الجميل والمزخرف بزخرفة هندسية ومدخله المقبى بمقرصنات.
من جهة ثانية نشاهد معبد حدد ويعتبر من أعظم الاكتشافات الأثرية ليس في حلب وحسب، وإنما في سوريا، وهذا ما أكده العالم الآثاري الإيطالي "باولو ماتييه" بقوله: "إن اكتشاف معبد حدد في قلعة حلب هو أعظم اكتشاف في القرن العشرين".
وقد عثر في هذه الفترة على مجموعة من الأنصاب البازلتية، وبلغ عددها /32/ نصب بازلتي، اختلفت مشاهدها، وهي بالعموم مشاهد متنوعة لإله الطقس والأنواء حدد، الذي كان معبود أهل سوريا وبلاد الشام.
هذا وتذكر رُقم ماري بأن ملكها (زيمريليم) كان قد حجّ إلى هذا المعبد في القرن التاسع قبل الميلاد وقدم الأضاحي له، ويتحدث باحث الآثار السورية "غريب" في شأن المعبد بالقول: "عثر داخل هذا المعبد على حورية من الحجر البازلتي وتمثال ضخم لأسد وقد زينت الأنصاب البازلتية بكتابة (لوفية، حثية)، والاكتشاف الأهم هو لحجر بازلتي نقش عليه جنيين متقابلين يرقصان وهما مجنحان، وقد حفظ في متحف حلب الوطني".
قاعة العرش
هنا نتابع السير لنصل إلى قاعة العرش المليئة بالنقوش والرموز، فمدخل الباحة بُني بحجر الأبلق بتناوب جميل، ومن ثم نلج في رحلتنا داخل القلعة إلى الباحة السماوية وقد ازدانت وهي الواجهة الشمالية بزخرفة هندسية كخيط عربي، ومدخل الشرفة زين برمز الشمس وهو رمز للولادة والتجدد.
مع الدخول إلى قاعة العرش ذو المدخل الجميل يعلو بابها مقرنصات جميلة بني مدخلها بحجر الأبلق الأسود والأبيض وزينت واجهة قاعة العرش من الخارج بالعديد من اللوحات الزخرفية من آيات قرآنية وزخارف هندسية وغيرها أضفت جمالا أخاذا عليها.
ويتضح وفق الباحث أحمد غريب أن الرموز بقلعة حلب هي منتجاً ثقافياً وطقساً عقائدياً ويحمل في طياته العديد من الأفكار التي تتقاطع مع ما يرمي إليه الباني وبالتالي فالرموز في المباني الأثرية هي حالة ثقافية دينية لها دلالاتها وتعابيرها لكن تحتاج للمزيد من الدراسة والتأمل لمعرفتها وبالتالي تزيد معرفة تفكير من وضعها وماذا كان يقصد بها فيما تبقى القلعة الذاكرة البصرية الهامة والمقام الرفيع بين المواقع الأثرية في سورية.