نعم أنت في حلب مدينة الحضارة والتسامح. فهنا لا فرق بين مسيحي أو مسلم، لأن الدين لله والوطن للجميع.
أصيلة تلك المشاعر التي لطالما كانت تحيا في صميم القلوب لتزهر حباً وسلاماً على كل الدروب. إنّها مدينة سيف الدولة الحمداني و حاضِرة الصِناعات المتعددة، تلك المدينة التي أوقفت فيها عقارب الساعة قبل خمس سنوات خلت فلم تعد رزمانة التاريخ تقلب أوراق الزمن كما ولم يعد صوت البلبل يصدح في أرجاء الأزقة خوفاً من فكرٍ تكفيري قاتل يسكت صوت الحنين والغناء والتسبيح.
منذ ذلك الحين لم يشهد سكان حلب إلا ثوبا اسدل عليهم من الأحزان والآلام والمعاناة، فتلك قذيفة قد اخترقت بيتَ من نحب و نعشق وذاك صاروخ سقط في روضة أو مدرسة أو مشفى ليذهب من بداخلها بين ملاك و شهيد وجريح لتبقى لنا اشلاؤهم فقط مبعثرة في كل ركن وزاوية ومكان إلا ذاك الإيمان الذي كان وحده من يداوي تلك القلوب الحزينة!
إيمان بعظمة مكانة الشهيد في جنان النعيم ويقينا بحتمية نصر جيشهم الباسل على تلك الأرض. ففي ذلك الوقت زعَمَ أصحاب الفكر المتطرف حينها أنهم يريدون تحقيق الحرية "المسلوبة" فحرقوا الشجر و الحجر قبل أن يحرقوا البشر متسترين بعباءة من الدين و الدين منهم براء. فتعاليم الإسلام و وصايا رسوله الكريم لم تكن يوماً من الأيام كذلك.
بدأ الإرهاب إجرامه في تلك المدينة مع بداية صيف العام 2012 ليستمر حتى أواخر العام 2016 لينتهي هذا الفصل بحكاية نصر صنعها صمود حلب الاسطوري و همة جيشها السوري الأبي وذلك مطلع العام 2017.
هو نصر كان موعود لأهلها ويقينا كانوا به مؤمنين ففي الرابع والعشرين من شهر كانون الأول / ديسمبر من العام 2016 فرض الجيش العربي السوري والقوات الرديفة له سيطرتهم التامة على كامل أحياء مدينتها القديمة وأحيائها الشرقية المتبقية معلنين بذلك سقوط ورقة مهمة جداً من أيدي كل من تآمر وأجرم وتاجر بدم السوريين.
منذ ذاك اليوم وعاصمة الاقتصاد تنفض غبار حزنها بعيداً وتداوي جراحها بمزيد من الأمل والإصرار والعزيمة.
حلب تحيا من جديد
مع الذكرى السنوية الأولى لانتصار حلب أقامت السلطات الرسمية في البلاد فعاليات عديدة إضافة إلى لقاءات إذاعية وتلفزيونية مباشرة من أحياء وشوارع تلك المدينة. فساحة " سعد الله الجابري" شهدت مسيرة بالآلاف عبر من خلالها المشاركون عن تمسكهم بالأرض والتراب ومحبتهم للرئيس "بشار الأسد". هي أغان وأهازيج صدحت و حناجر وسواعد هتفت للإخاء والمحبة و للجيش العربي السوري. كما تخلّل هذه الفعالية أيضاً عرض عسكري لقوى وتشكيلات مختلفة كان لها دوراً رديفا في تحقيق الانتصار إضافة لعروض رياضية وأخرى للأطفال.
وليس ببعيدٍ عن هذا المشهد فقد احتضن مسرح نقابة الفنانين بحلب فعالياتٍ غنائية وموسيقية عديدة امتدت على مدى ثلاثة أيام متتالية شارك فيها باقة من الفنانين منهم:" فاهي، مصطفى دغمان، ناديا المنفوخ، طلال الباشا فارس أحمر، رنا معوض، عصمت رشيد، أحمد خيري، عبود حلاق، كنانة قصير، مصطفى هلال ". غنوا عدداً من الموشحات والقدود الأصيلة إضافة إلى أغانٍ تحمل الطابع العريق.
وفي مشهد آخر ومع حلول ذكرى الميلاد المجيد،احتفلت هذا العام الطوائف المسيحية بأعيادها دون حذر أو قلق حيث لم تعد القذائف الإرهابية تطال مُصلى كنائسهم ولم يعد الخوف يستوطن قلوبهم، فها هم اليوم يحتفلون بكل سعادة وغبطة بصلاوات وترانيم يرجون الله فيها أن يحفظ لهم سورية وقائدها ويرحم كل شهيد ضحى بدمه في سبيل أن يبقى الوطن بهذه الهوية.
فها هي شجرة الميلاد قد تزيّنت بالأضواء والأماني في ساحة حي "العزيزية" بحلب لتنير درب المحبة والإخاء وتسدل ستاراً على ظلام التكفير والإرهاب
من جانب آخر عزفت جوقة "الفرح" تراتيل الميلاد والانتصار بعنوان " ضلك ضوي" وذلك في كاتدرائية القديسة "ماتيلدا" وذلك بمشاركة أكثر من 200 طفلٍ وطفلة في مشهدٍ جميل أضفى سلاماً وصفاءً للنفوس، كما و قدم في هذا الحفل فقرةً تُحاكي صوت هطول المطر وذلك بأصوات بشرية مجتمعة لعلها أصوتّ حقيقيةّ تحكي قصة الإعمار والوئام في تلك المدينة ومحبة أبناءها لبعضهم البعض.
واليوم بتوجيه من الرئيس بشار الأسد وفد وزاري كبير مؤلف من 16 وزيراً يزور حلب ليقف عند متطلبات أهلها و يعمل بكل فاعلية على النهوض بالواقع الخدمي والإعماري فيها. من جهته أشار رئيس مجلس الوزراء السوري في تلك الزيارة أن حلب هي النواة والبُنية والركيزة الأساسية للاقتصاد السوري. ولهذا يتم العمل على مناقشة تنفيذ كل الجوانب المتعلقة بالمخطط التنظيمي للمدينة على الأصعدة العمرانية والسكانية.
فيما أكد الوفد الوزاري أيضاً خلال اجتماعاته الموسّعة على أن الأول من شهر نيسان/أبريل المقبل سيكون موعداً لإعلان المخطط التنظيمي لمدينة حلب تليه تشكيل لجنة فرعية لمتابعة العمل مع اللجنة الرئيسية لإعادة تقييم المخطط التنظيمي العام للمدينة.. والعمل على إنجاز مخطط تفصيلي بالتوازي مع تنفيذ المخطط التنفيذي لها مؤكدين أن حلب سيُعاد بناؤها بشكل أفضل وأجمل مما كانت عليه سابقا.
فالاهتمام الأساسي بات اليوم هو إعادة إنعاش الصناعة والمدن الصناعية والحرفية وعودة الإنتاج بشقيه العام والخاص وذلك بمشاركة رجال الأعمال والقِطاع الخاص وهذا طبعاً يتطلب تضافر الجهود من السلطتين التنفيذية والتشريعية لاستكمال انتصار حلب وإعادة بنائها بأسرع وقت ممكن تأكيداً على ما سبق عقد عدد من الوزراء مؤخراً لقاءات هامة مع الصناعيين والتجار والمستثمرين في القطاع السياحي بحلب مستمعين لمقترحاتهم الهامة في سبيل النهوض بالواقع الاستثماري والصناعي والسياحي وتذليل العقبات لاقلاع العجلة الصناعية مما يسهم بشكل كبير في دعم الليرة السورية وخلق فرص عمل إضافة الى تعزيز الاقتصاد.
فيما توقع محللون أن حلب ستكون في قمة نهضتها الاقتصادية والسياحية والعمرانية حوالي العام 2020 حيث أنها ستضاهي العديد من المدن المزدهرة في الخليج والمنطقة العربية.
الجدير بالذكر أيضاً أن حلب لم تكن يوماً حديثة العهد أو النشأة ولا يجوز مقارنتها مع غيرها من المدن المستحدثة في بعض الدول فالابحاث التاريخية العالمية أثبتت أن حلب كانت ولم تزل المدينة الأقدم عبر التاريخ والأعرق في ذاكرة التمدن والحضارة تلك الحضارة التي هطلت مع قطرات المطر
لتسقي تراب الحب والأمل، وتعزز جذور الانتماء والعيش المشترك.