وبصبر وشغف وزهو يعكف جيش صغير من عشرات المهندسين والعمال والحرفيين المهرة على العمل بدأب لترميم الجامع المعروف محليا بالجامع الأموي، والذي طالته يد الحرب في سوريا بالخراب، يدفعهم الأمل في إعادة رونقه ليقف مرة أخرى شامخا في المدينة الشهباء.
وفي صحن المسجد ينشغل كل بعمله، فهناك من يوثق الحجارة المتهاوية جراء التدمير والتي تم ترقيمها وتصويرها، وهناك من يضع الصخرة المناسبة في المكان المناسب، وفقا لما كان مرسوما عبر التاريخ، وهناك من يقطع الألواح الخشبية إلى قطع صغيرة تمهيدا لدمجها في إطار الأبواب الداخلية والبالغ عددها 12 بابا.
وعلى أحد الجوانب، يقف النحات عبد الجبار عزوز مع عماله وهو يضع صخرة ضخمة على طاولة حجرية، ويبدأ بقصها بالمنشار الكهربائي، تمهيدا لاستخراج أشكال منحوتة، هي عبارة عن تيجان حجرية أو ورود أو آيات قرآنية أو مزاريب، يتم وضعها على سطح الجامع لتصريف مياه الأمطار.
ويقول عزوز الذي غطاه الغبار الأبيض لـ "رويترز" بحماس: "إني فخور أن اسمي سيخلد هنا، أنا أعمل بكل حواسي ولو استطعت لأقمت هنا كي أنهي عملي. هذه الحجارة ستتحدث عنا بعد رحيلنا وستبقى للأجيال".
ويتوزع المهندسون والنحاتون والعاملون في أماكنهم، كل حسب تخصصه، في مهمة تبدو شاقة، لكنها منظمة تنظيما دقيقا لإعادة الجامع إلى ما كان عليه قبل الحرب وإعلاء صوت مئذنته في حارات المدينة.
وكل هؤلاء يعملون وفق مخططات تم تنظيمها في مكاتب مستحدثة على مدخل الجامع، الذي استضاف رافعة عملاقة من دمشق جاءت خصيصا لهذا الغرض، كون أن معظم معدات وآليات المدينة تم نهبها إبان الحرب، التي عصفت بالمدينة منذ عام 2012.
ومن بين هؤلاء مهندس الديكور والأستاذ في كلية الهندسة المعمارية في حلب صخر علبي، الذي كان أحد المشاركين في عملية ترميم سابقة للجامع في 2005، وجاءت عملية إعادة إعمار الجامع بهبة من الشيشان، وصل منها حوالي سبعة مليارات ليرة سورية (حوالي 16 مليون دولار).
وقال علبي لرويترز، إن حجم الدمار يعادل ثلث المسجد تقريبا، وأصاب بشكل رئيسي كلا من المنارة والمئذنة وما حولهما، إذ أن الأضرار لحقت بالأعمدة والركن وكل ما هو متصل بالأسواق.
وتبدو تلك العملية طويلة نسبيا، فقد بدأت منذ ستة شهور برفع الأنقاض، وإزالة أكياس الرمل عن الفتحات، حيث يصف المهندسون المشهد في الداخل كمن يتحدث عن ترسانات حربية أما في الخارج فالصورة أسوأ نظرا لحجم الدمار.
وقبل ستة أشهر، اتفقت وزارة الأوقاف الشيشانية مع نظيرتها السورية لتمويل إعادة إعمار الجامع حيث بدأت الدراسات لتقييم الأضرار وسبل التنفيذ تحت إشراف المديرية العامة للآثار في سوريا.
ووضع القائمون على المشروع تصورا أوليا للتكلفة المالية والمدة الزمنية التي ستستغرقها مرحلة إعادة الترميم.
ويشرح صخر علبي: "عندما وضعنا التصور الأولي كانت التكلفة مقبولة مع تغير سعر الليرة إذ بلغت حدود سبعة مليارات ليرة سورية أي التكلفة التي تم دفعها في العام 2006 حين كانت حلب عاصمة الثقافة الإسلامية".
وفي تصور المهندسين، فإن المرحلة الزمنية لإنجاز عملية الترميم، هي ثلاث سنوات تقريبا، لأن العمل الفني داخل وخارج المسجد سيكون متلازما مع العمل على إعادة إصلاح البنى التحتية ومتناغما ومتشعبا معها لا سيما في الأسواق القديمة.
ويجد المهندسون المعماريون والنحاتون صعوبة في العثور على المقالع، التي تتطابق حجارتها مع حجارة الجامع الأموي الكبير إذ يضطرون إلى استيرادها من خارج حلب مما يبطئ وتيرة الإنجاز.
ويشير علبي إلى الباب الخشبي الرئيسي للجامع بحسرة قائلا: "هذا الباب عمره نحو 800 سنة… مو موجود. حتى المنبر الرئيسي يللي ما في منو غير قطعتين بالعالم الإسلامي كمان غير موجود، إن شاء الله يكون بعده موجود".
ويعمل على إعادة الترميم ما بين 100 مهندس ونحات وعامل، أنجزوا حتى اليوم عشرة بالمئة من عملية الترميم بعدما أصبحت الأهداف لديهم واضحة.
ويجري العمل اليومي على أساس الكتب التاريخية التي تحتوي على الصور الأصلية حيث يقوم المهندسون بمهمة مقارنة الحجر بالحجر على جهاز الكمبيوتر في عملية بحث دقيقة للوصول إلى الأصل وإتقان التنفيذ.
ويقول علبي إنه بحث على الإنترنت في كل من ألمانيا وإيطاليا، عن كيفية معالجة الثقوب واستخراج الرصاص، حيث لم يسلم جدار واحد من جدران الجامع من الشظايا والرصاص لذلك قام المهندسون بتقسيم الجدران تبعا لنوع التشوه.
ويقول علبي: "في جدران بدنا نتركها كشاهد على الزمن، في أفكار انو نكسي (نغطي) بعض الجدران بالخشب وبعد سنين بيجي عالم بيشيلو الخشب ويشوفو شو كان صاير".
ويفوق عمر الجامع الأموي الكبير 1300 عام، أما مئذنته فهي أصغر بمئة عام، إذ أنها كانت في غير اتجاهها، ولم تكن قد اتخذت أبعادها إلى أن انتقلت إلى زاوية أخرى.
وترتفع الأقواس فوق 12 بابا خشبيا من أبواب الجامع، ولكل قوس نقش خاص به على شكل حياكة الخيوط.
ويقول النجار أحمد خطاب، وقد وضع قلما خشبيا فوق أذنه اليمنى، إن القوس يحتاج إلى شهر عمل، حيث يتم التطابق مع صور تعود إلى نحو 120 عاما، بعد أن يتسلم المخططات من المهندس المكلف بالتصميم، ويبدأ مع صانعيه بالعمل على أساسها.
ويضيف خطاب: "لدينا التخشيبة الداخلية (القاعدة) هذه يجب أن تكون سميكة وهناك القضبان على وجه التخشيبة، التخشيبة خشب سنديان والقضبان خشب جوز وسنديان، خشب الجوز يعطي اللون الغامق والسنديان بيعطي الفاتح… تتماسك مع بعضها في إطار محكم".
وتحتاج هذه المهمة إلى تركيز لنحو عشر ساعات متواصلة في النهار.
ويعتبر الجامع الأموي الكبير في حلب أحد أقدم المساجد في المدينة السورية، ويقع في حي الجلوم في المدينة القديمة من حلب، التي أدرجت على قائمة مواقع التراث العالمي عام 1986.
ويشبه الجامع إلى حد كبير في مخططه وطرازه الجامع الأموي الكبير بدمشق، وتم تشييد المسجد في القرن الثامن الميلادي، ودمرت أجزاء كبيرة منه في أبريل/نيسان من عام 2013 نتيجة الحرب السورية.
وكان المسجد عانى فيما مضى من الحريق والدمار الكبير، الذي خلفه المغول حين سيطروا على حلب في عام 1260 بعد عامين من تخريبهم بغداد التي كانت مركز الحضارة الإسلامية حينها.