وترانا نشهد على الجانب الآخر أن التقلبات الٌإقليمية والدولية الراهنة بما يخص التعامل مع الملف السوري تدل على ذلك بوضوح تام رغم التعقيدات الحاصلة، وبالرغم من كل ما يجري نرى أن الدولة السورية تتجه بخطى ثابتة وبالتنسيق مع حلفائها لأجل تجهيز الأرضية اللازمة لهذه المتغيرات القادمة.
وحتى نفهم حقيقة ما يجري حالياً ليس علينا فقط أن ننظر إلى الظاهر القريب من الأحداث، بل علينا أن نرى البعد الجغرافي والجيوسياسي الإستراتيجي للدول المتداخلة في القضية السورية من حلفاء وأعداء على حد سواء ، باختصار أن الأمر ومافيه وفيما يخص العلاقة الروسية الأمريكية وحسب بعض التسريبات كان قبل الأولمبياد الكروي في روسيا 2018 يتم التحضير لحرب في أوكرانيا للضغط على روسيا ومن هنا جاء تهديد الرئيس بوتين أنه في حال تم أي تحرك عسكري أو محاولة السيطرة على دونباس سوف يتم القضاء على الحكومة الأوكرانية سياسياً ولن تقم لها قائمة بعد ذلك، وتصبح خبر بعد حين، وتم إعطاء الأوامر للجاهزية الكاملة للجيش الجنوبي الفيلق الثامن المتواجد على الحدود الجنوبية بين روسيا وأوكرانيا للتدخل في أي لحظة تأتي فيها الأوامر بتنفيذ أي تحرك يهدد المصالح والأمن القومي الروسي في هذه الخاصرة التي شكت فيها الولايات المتحدة ودول الغرب خنجراً تحركه وقت ما تشاء لإيلام روسيا والتشويش على تعاطيها مع عدد من الملفات الإقليمية والدولية وعلى رأسها الملف السوري.
ووجه الرئيس بوتين حينها رسالة مفادها أنه مستعد للتخلي عن بطولة الكرة والتضحية بالمونديال في حال وقع أي تخطي للخطوط الحمراء هناك، وهذا الأمر شكل عامل ضاغط كبير على العلاقة والتفاهمات الروسية الأمريكية وكادت تنهار بشكل خطير لجهة الجنون الأمريكي ورد الفعل الروسي المحتمل.
الأوضاع في تركيا تحدثنا عنها منذ فترة وتقريباً يجري كل ما تحدثنا عنه في الوقت الحالي، عملياً أردوغان على خلاف كبير مع الولايات المتحدة رغم أنه حليف مكبل ويوجد توافق ولايوجد إتفاق معه، وخروج أردوغان عن الخطط المتوافق عليها جعل الولايات المتحدة تعود للضغط عليه بملف غولن لأنهم يبتزونه فيه وهو من جانبه يضغط عليهم بملفات أخرى، وفوق كل ذلك هناك خلاف بينهم حول موضوع المتغيرات الجارية بحلف الناتو والخطط المستقبلية في المنطقة وأوروبا ككل وحتى بخصوص الأوضاع في سوريا وطريقة التعاطي معها، والأكثر من ذلك الأمر يكمن في أن أردوغان وبعد محاولة الانقلاب عليه ألقى القبض على أكثر من 1000 مواطن تركي ومن جنسيات مختلفة يعملون لصالح الولايات المتحدة استخبارات ومن بينهم مؤخراً القس الأمريكي أندرو برونسون، الذي اتضح فيما بعد أنه ضابط استخبارات وظهرت له صور بالبزة العسكرية الأمريكية وهو يحمل سبائك الذهب من البنك المركزي العراقي عام 2003.
عمليا الجميع بورطة وأكثرهم أردوغان الحليف اللدود الذي تجاوز الكثير من الخطوط الحمراء مؤخراً ولأنه يتعامل بنفس طريقة الأمريكي في تحديد العلاقة بناء على المصالح التي تفتقد إلى الثوابت والقيم ، لذا كنا نراه تارة في حضن الأمريكي وتارة في حضن الروسي ، وأحد جوانب الخلافات مع الولايات المتحدة هي أن أردوغان أصيب بمرض جنون العظمة رسمياً بعد ما فاز مؤخراً في الانتخابات الرئاسية وعاد إلى تجاوز التوافقات ويشتغل لوحده، في بعض الاتجاهات تارة لوحدة وتارة مع الإيراني وتارة مع الروسي نكاية بالأمريكي لكي يحسن وضعه معه، ويرقص على كل الحبال وكل هذا العمل بتنسيق دقيق مع البريطاني والإسرائيلي، أو بتوجيه بمعنى أدق، وهذا الأمر واضح من سلوكيات إسرائيل وبريطانيا تجاه الأوضاع الحالية في تركيا وتعبير بريطانيا على أنها تؤيد قرارات الحكومة التركية بهذا الشأن، هذه الدول جميعها لاتحترم بعضها البعض وما يحكم علاقاتها هي فقط المصالح لذا نراها في حالة توتر تارة وتارة أخرى في حالة توافق، أما بخصوص الموقف الصيني لجهة دعم الإجراءات التركية فهو يأتي على أغلب الظن على مبدأ التحرش بالولايات المتحدة في منطقة تعتبرها منطقة نفوذ لها على الأقل بشكل جزئي حالياً وأراد الصيني على الأرجح أن يوجه رسالة للأمريكي بأنه قادر على أن يتخذ موقف يضع الأمريكي في خانة "اليك" في إحدى زوايا هذا الملف.
في واقع الأمر الأوضاع جداً متوترة وكل الاحتمالات واردة في نشوب أي توتر جديد قد يصل إلى التصادم العسكري لأن هذا النوع من التصادم يخدم مصالح هذه الدول، لكن في نفس الجميع لايتجرأ على أن يكون البادىء بسبب غموض النتائج التي يمكن أن تترتب على ذلك في ظل الصعود القوي لمحور المقاومة مدعوم بالانتصارات المحققة على الساحة السورية من جهة، ومن جهة أخرى صعود المحور الدولي لمواجهة الإرهاب والهيمنة الأمريكية بقيادة روسيا من جهة أخرى، ومن هنا إن لم يتم حدوث أي حرب حتى نهاية شهر أيلول القادم حسب بعض الرؤى المستندة على التطورات الحالية ، وقد تكون بدايتها في فلسطين أو لبنان سوف تخلق ساحة فراغ تتخللها التجاذبات السياسية والدبلوماسية حتى نهاية شباط 2019، وقتها تكون موازين القوى قد تغيرت بشكل جذري مع نصر سوريا في الحرب بشكل حاسم.
الرئيسين بوتين وترامب، اتفقا قبل اللقاء على بعض الأمور ولو عن بعد وإن صح التعبير من خلال تطابق الآراء وبعض المواقف وحتى بالتخاطر يعني أنه لم يكن هناك أي مجال لعقد أي إتفاق رسمي في ظل الأزمة القائمة حول اتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية وغيرها من الملفات الأخرى كالعقوبات ومحاولة محاصرة روسيا في دول أوروبا الشرقية والملف السوري وغيرها، وخلال اللقاء لم يتفق الزعيمان على جديد لكن الرئيس بوتين كان على قدرة عالية من القوة والذكاء والحيلة التي خربطت ترامب وكل حلفه، بحيث استطاع الرئيس بوتين أن يحجمه بشكل جدا ذكي ويحاصره سياسياً ودبلوماسياً، وكان قبلها قد حاصره اقتصاديا من خلال اللعب مع الصين على بحر قزوين وبحر الصين الجنوبي وطريق الحرير والتواجد القوي في شمال إفريقيا وسحب تقريباً كل امتيازات التواجد العسكري والاقتصادي للفرنسي والأمريكي من هناك وصولاً لأفريقيا الوسطى، والملف النووي الإيراني، والاتفاقات الاقتصادية التي وقعها بوتين مع جميع الأطراف خلف ظهر ترامب وأمامه سواء مع حلفائه في المنطقة وحلفاء ترامب طبعاً في الخليج وتركيا وغيرهم ودول بريكس ودول الرابطة ومنظمة الأمن الجماعي وحتى ما جرى خلف الكواليس.
وبقي أن تتفق الإدارات السياسية بين البلدين وتبدأ مرحلة جديدة في سوريا والعالم، الوضع الأهم والأخطر هو أن الولايات المتحدة تعلم تماماً أن سوريا وحلفائها انتصروا في الحرب الكبرى وبناء على ذلك نرى التراجع الأمريكي في تمويل جهات كان قد دعمتها سابقاً بمئات ملايين الدولارات، حيث قررت الولايات المتحدة تحويل مبلغ ٢٣٠ مليون دولار إلى أهداف أخرى في سوريا. هذا المبلغ كان مخصصاً لتحسين الوضع في المناطق التي تسيطر عليها في سوريا، وتغيير خطط الأمريكي في سوريا ألمحت إليها ماريا زاخاروفا في تصريحاتها الأخيرة بهذا الشأن وتساءلت طبعاً بشكل واضح عن الهدف من ذلك قائلة:
"لم يعد هناك داعش، ولا إرهابيين. حتى الخوذ البيضاء رحلت، لمن ستحول الإدارة الأمريكية الأموال؟!!! هل من المعقول أن تدفع الولايات المتحدة من أجل إحلال السلام؟!!!)".
هذه المتغيرات تأتي انعكاساً لسلوكيات الأمريكي غير المفاجئة أصلاً بدءً من العمل على إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة الشددادي في محافظة الحسكة وصولاً إلى تعيين جيم جيفري السفير الأمريكي السابق في العراق مستشاراً خاصاً لبومبيو بشأن سوريا إلى المناطق المسيطر عليها في الشمال والشمال الشرقي السوري تحديداً، وهذه الخطوة لا تعدو أكثر من كونها مناورة لن تؤتي أكلها مهما حاولت الولايات المتحدة إطالة عمر الحرب وإعاقة العملية السياسية في البلاد.
القيادة السورية تعي تماماً أن المجتمع السوري في حالة تحتاج إلى عناية مشددة في ظل هذه الانقلابات والمتغيرات المتسارعة، وتمر البلاد في مرحلة لا تقل خطورة عن السنوات الماضية التي حاولت فيها دول العدوان أن تستنزف سوريا وتفتتها سياسياً ودينياً وجغرافياً وديمغرافياً واجتماعياً وجميعها فشلت، وهذا الأمر يدرسه الروسي بمختلف جوانبه حاليا لتقديم رؤية شاملة للحالة السورية ومقدار التجاوب مع المتغيرات القادمة والحالية للاوضاع ، وتعي تماماً الدولة السورية وحليفها الروسي المعني بالعملية السياسية بشكل كبير أن هناك حالة في المجتمع تشبه الحالة قبل عام 2011 وهناك تجييش للحالة الشعبية ضد الدولة من خلال القيام بعمليات اغتيال وتخريب، ومحاولة إحباط الداخل السوري بالارتكاز على بعض القرارات والإجراءات المؤسساتية التي تمس حياة المواطن مباشرة وهناك من يعمل على تجييشها منهم بالعاطفة مع التيار ومنهم غباء ومنهم وكأنه يقوم بتوجيه بشكل مباشر أو غير مباشر بالرغم من أن هذه القرارات قد تكون صائبة والدولة محقة فيها ولكن قد يكون التوقيت والظرف وطريقة التنفيذ خاطئة بعض الأحيان، وحتى يفهم المواطن حكمة القيادة من هذه الإجراءات تكون الحالة وصلت إلى ذروتها وهذا ما تهدف إليه القوى المعادية لسورية المنتصرة ما سيشكل عائق في الانتقال السلس من حالة إلى حالة داخل البلاد، وهذا أمر خطير رغم وعي الشعب والقيادة في سوريا ومستوى العلاقة والتعاضد الكبير والمتبادل بين الشعب والدولة، من هنا قد يكون من الواجب أن يكون هناك طريقة لإبلاغ المواطن وتحضيره والتنفيذ وهذا لا يجري في معظم الحالات، هذه الرؤيا مبنية على واقع لا يتناسب فيه مقدار السلبيات والإيجابيات ومدى نجاعة طرحها بشكل صحيح.
لابد من التفكير بشكل سليم في كيفية التعامل مع هذه التحولات على مستوى المؤسسات أو الرأي العام، لأننا نبحث عن النتيجة الأفضل وليس فقط الفلسفة السياسية والاجتماعية التي لا تنفع ولا تضر في غالب الأحيان، في مثل هذه الظروف وقد يكون هناك بعض التباعد في الأفكار لكنها واضحة، أمر طبيعي أحيانا أن لا تتطابق أفكارنا مع التوجه العام أو مع أفكار أي برنامج للتطوير والتحديث وليس من المعيب أو المحرج أبداً أن نغير الأفكار أو نغير في البرامج أو بعض من مضامينها، خلال الفترة القادمة الموقف الروسي سيلعب فيه الحالة الاجتماعية ومدى تقبلها دور كبير جداً، فلماذا لا نسبق أنفسنا قبل غيرنا في تحقيق ما نصبوا أو نرنوا إليه من تحسين في مجتمعاتنا مع الأخذ بعين الاعتبار التجارب الأخرى.
الولايات المتحدة لا تستطيع أن تعيش بدون عدو لأنها تقتات على نتاجات النزاعات والحروب التي تفتعلها ولأن اقتصادها اقتصاد حرب من بيع السلاح والمتاجرة به وهي تحاول على الأسس التي تحدثنا عنها أعلاها على إحداث فراغ مفاجىء في الحالة الميدانية والسياسية والاجتماعية في سورية وقد تتخذ إجراءات مفاجئة تحقق مطالب الشعب والدولة السورية والحلفاء لكنها تضمر الشر في أن تظهر مظهر الملتزم بالقانون الدولي وقد تعتذر عن بعض الأخطاء، لكن في الحقيقة هذا الفراغ هو ليحدث صراع داخلي شعبي مجتمعي و سياسي متعلق بالحلفاء ليتم توجيه الآلة الإعلامية بعد ذلك إلى التواجد الشرعي من عدمه لحلفاء سورية خاصة الإيراني وحزب الله فتدخل سورية من جديد في جبهة الدفاع عن النفس أمام الضغوط والإتهامات بأن إستمرار الحالة الخلافية الداخلية بين الدولة والمعارضة هي وجود هذه القوى مدعوم بخطط لتضلل العقل الجمعي، بالمحصلة بما يخص الأوضاع الحالية أي إنسان عاقل لايخرج حالياً على الإعلام بسبب المتغيرات السريعة لواقع ومجريات الأحداث التي تتقاطع بشكل غريب ويمكن أن تتغير وتنفلب بسرعة البرق إلا من كان يملك المعلومة ولديه القدرة الكافية ليبنى عليها التحليل والموقف دون أن يسربها ويتحمل المسؤولية.
الأمر الأخر وتثبيتاً أو تأكيداً لما أوردنا من قوة وصمود الدولة السورية والحلفاء ، دعونا نجري هنا مقارنة بسيطة وسريعة ونحاول الإجابة على التسلاؤلات التالية:
من هو الطرف المتوتر ومن هو الطرف الهادىء في الوقت الراهن ؟ في الإجابة على هذا التساؤل نرى أن الطرف الهادىء هي سورية وحلفائها ، فسورية تهتم بالوضع الميداني وأدارت ظهرها لكل مايحري غير مهتمة لأنها تعي تماما مايجري ،، والرئيس بوتين يقوم بجولات هادئة ومنتجة ويرقص في حفل زفاف وزيرة خارجية النمسا إذا هو مرتاح لمايجري ومطمئن لما يقوم به ، ويتفق مع أنجيلا ميركل التي تتزعم دولة لها مكانتها العالمية ولها التأثير الكببير على دول أوروبا ، وإذا ما تم معها الاتفاق يكون قد تم مع الجميع تقريبا، وأنجيلا ميركل قيادية من النخب الأول تبتعد عن المراوغة والعاطفة وتعي تماماً بيد من يجب أن تضع يدها، أما الطرف الآخر لا يستحق التفصيل أبداً فهو في حالة تقلب واهتزازات وضياع شبه كامل في عدم القدرة على التعاطي مع المتغيرات أو الاستشعار عن بعد أو حتى حساب خط الرجعة وهذا ما يجري لأردوغان وترامب الذي يتضح أنهما باتا حملا ثقيلاً على مشغليهما.
وفي الختام يبقى من أهم الأولويات الاهتمام الدقيق بالمتطلبات اللازمة لعملية الانتقال إلى مرحلة جديدة تضمن الحفاظ على مكتسبات النصر وردع منعكساته السلبية نتيجة رفض بعض القوى الإقليمية والدولية الاعتراف به وخاصة تجاه الوضع الداخلي.