الطريق إلى ورشة "عم صبحي صالح الطيب" يمر عبر شوارع وأزقة ضيقة تحمل بين جنباتها عبق التاريخ ومعالمه الخالدة على حوائط شامخة وأخرى محنية كشيخ عجوز يمسك بوصاياه لكل مار من هنا.
بعد بضعة دقائق سألنا فيها أهل المنطقة وصلنا إلى ورشة الحاج صبحي الطيب، وجدناه جالسا على إحدى اللوحات الفنية التي يمسك بالأوتار الذهبية التي يعزف بها على لوحة فريدة يشكلها بدقة عالية وكأنها لا تزال تصنع من أجل الكعبة.
على الرغم من أنه تخطى سن الستين، إلا أنه يحرص على العمل وسط الأسطوات، فنظارته الطبية الكبيرة وتجاعيد وجهه والأثر الراسخ على أصابعه من عمله بالتقصيب، وتصميماته الخصاصة تؤكد على عبقرية متوارثة.
يقول الحاج صالح صبحي في حديثه الخاص مع " سبوتنيك": "بدأت العمل مع والدي الأسطى محمد صالح في مصنع الخرنفش بمنطقة باب الشعرية، وكان يعمل بالمصنع نحو 60 من العمال والأسطوات (الفنيين)، وقد عملت بهذا المصنع منذ الثامنة من عمري، وكنت في البداية أناول الخيط للفنيين، وتدرجت بعد ذلك في العمل خطوة خطوة حتى أتقنت المراحل كلها في سن الثامنة عشر من عمري، وكانت المراحل في ذلك الوقت عبارة عن كتابة الخطوط والرسم الزخرفي وضم الخيط وشد المنسج، والحشو والكتابة البومبية، وشاركت بالفعل في تصنيع آخر كسوة خرجت من مصر على المحمل سنة ١٩٦٣، بعد أن طافت مناطق عدة بزفة كبيرة واحتفالية تاريخية".
يتابع أن تصنيع الكسوة كان يستغرق نحو 6 أشهر، وكانت تغير مرتين في العام، وهو ما كان يجعل العمل مستمرا على مدار السنة كاملة، وأن الأجور الخاصة بعمال تصنيع الكسوة كانت الأعلى بين كل الحرف والمهن في ذلك الوقت.
يوضح أن العاملين في المجال كانت أعمارهم كبيرة في عمر والده في ذلك الوقت ولم يستمر في العمل من الشباب سواه، حيث توفى كل الذين شاركوا في تصنيع الكسوة ولم يتبقى سواه في مصر في الوقت الراهن.
يستطرد أن الكسوة كانت تصنع من الصوف الأسود، وأن الخيوط التي كانت تستخدم في الكسوة من الذهب الخالص، والرسومات والمطبوعات كانت تصميما مصريا وكانت تتسم بالدقة والتفاني لكنها كانت تستغرق الكثير من الوقت نظرا للعمل بالطرق البدائية، حيث تكتب الآية والتصميم على ورق شفاف، وثقبه عدة ثقوب دقيقة ووضعه على الصوف، وتأتي بعد ذلك مرحلة رش الحبر فوق الثقوب ليسقط منها على الصوف، وتأتي بعد ذلك مرحلة الحشو التي يقوم بها القصبجية ، الذين يقومون بعملية التخييط بخيوط الذهب على الخيوط المرسومة بسقوط الحبر فوق الصوف.
اعتزال والده
يقول أن والده اعتزل المهنة بعد توقف إرسال الكسوة من مصر إلى السعودية، وأنه رأى عمله بالتقصيب دون كسوة الكعبة عيبا، وأن معظم من كانوا يعملون بالمصنع اعتزلوا المهنة بتسوية معاشهم، وأن بعضهم استقدمته السعودية للعمل بتصنيع الكسوة على أرضها.
الفارق بين الكسوة حديثا وقديما
يوضح الحاج صالح أن الفارق هو الجهد والفن في التشكيل والزخرفة، خاصة أن الفنيين في مصر كانوا يستغرقون فترات طويلة قد تصل إلى شهر في لوحة صغيرة، وذلك من أجل اتقانها بشكل أمثل، إلا أن العمل في الوقت الحاضر يختلف نظرا لوجود الآلات السريعة، وأن العمال الذين يقومون بهذا العمل يدويا ينظرون للوقت مقابل الأجر، وهو ما يدفعهم للعجلة من أجل إنجاز اللوحة.
أبرز أعماله
يوضح أنه بعد وقف إرسال الكسوة إلى السعودية، قرر أن يعمل في المهنة التي عشقها، وأن من أبرز الأعمال التي صنعها في مصر كسوة لأحد أبواب قصر ابنة سلطان بروناى، ويصل ارتفاعها إلى ٦ أمتار، ونسجت بخيوط الذهب والفضة وبلغت تكلفتها نحو ١٥٠ ألف جنيه، وهي توازي نحو المليون جنيه في وقتنا الحاضر، وأنه دأب على العمل مع الملوك والأمراء العرب الذين حرصوا على تصنيع بعض اللوحات الخاصة بهم من الذهب والفضة، وكان الحاج صبحي يقترح عليهم بعض الأشكال والرسومات.
تصنيع النياشين العسكرية
مرحلة أخرى من العمل في عهد السادات عمل بها الحاج صبحي، حيث يؤكد أن تلك الفترة كانت تنسج النياشين والرتب العسكرية من خلال التقصيب، وأنه وقع عليه الاختيار لنسجها، فكانت إحدى الخطوات الهامة لتعليم جيل جديد مهنة التقصيب.
الأدوات
تستخدم بعض الأدوات في الصناعة منذ نشأتها حتى الآن منها الإبر المختلفة في الأحجام والخيوط، بالإضافة إلى قطعة من البلاستيك تضع على بعض الأصابع لتحافظ عليها من الوخز المتكرر، وخيوط الذهب والفضة والمعادن الأخرى المستخدمة في تبطين اللوحات، ويصل سعر الكيلو من خيوط الذهب إلى 180 ألف جنيه، والفضة إلى 28 ألف جنيه.
يوضح أن خيوط الذهب والفضة يتم شراؤها من حي الصاغة، حيث تصنع بطريقة معينة على أيدي الفنيين، فيما تستورد الخيوط الأخرى من الخارج.
شهود عيان
وبحسب ما يوضح الحاج صالح أن من سبقوه في المهنة أكدوا أن أول من
قام بكسوة الكعبة من ملوك مصر، هو بيبرس البندقداري عام 661ه، وكانت ترسل من مصر أو من اليمن، إلا أنه في عهد الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون (743-746ه) بدأت مصر إرسال الكسوة للكعبة بشكل مستمر.
محمد حميدة