وتبرهن اللقى والدراسات الآثارية الحديثة أن سورية شهدت نشوء المدنيات والأفكار والدلائل المدنية الأولى للبشر، بما في ذلك المحاولات الأولى للتدوين والحساب والرسم على أقدم حائط مبني من قبل الإنسان، وفقا للاكتشافات الأثرية في موقع الجرف الأحمر وموقع تل جعدة المغارة، والمؤرخة بالألف العاشر والألف التاسع قبل الميلاد.
وأصبح للمدنية بمفهومها الخاص دور هام تلعبه في الحياة السياسية مع استخدام الكتابة المسمارية الرافدية والايبلائية والأوجاريتية في التدوين، فابتكار نظام متطور للكتابة يعني تدوين أولى المعلومات عن النظام الإداري في العالم القديم.
ويقول المؤرخ الدكتور محمود السيد، قارئ النقوش المسمارية والهيروغليفية والأبجدية القديمة في المديرية العامة للآثار والمتاحف: إن سوريا هي مهد أفضل النماذج في العالم للمواقع الأثرية التي تطور فيها نظام بناء المدن في عصر الوركاء، ففي سوريا اكتشفت في موقع تل حموكار على الحدود السورية العراقية قرب جبل سنجار أقدم مدينة أثرية في العالم، تؤرخ بأكثر من 3500 سنة قبل الميلاد، اتخذت شكل مربع وسط السهول المحصورة بين جبل سنجار جنوبا وسلسلة جبال طوروس وزاغروس في الشمال والشمال الشرقي، وكانت تمتد على مساحة قدرها مئتا هكتار.
وأضاف خبير الآثار: إنه في مدينة حموكار الأثرية اكتشفت أول أبنية في التاريخ العالمي اعتمدت نظام تكييف هوائي تمثل في وجود مقرات في جدران ثنائية متوازية تفصل بينهما مسافة من الفراغ لا تتجاوز 15 سم، وتسمح بمرور هواء مكيف نقي يساعد على مقاومة حر الصيف.
و في سوريا كما يؤكد الدكتور السيد اكتشفت في موقع تل حبوبة الكبير في حوض الفرات الأوسط، أثار مدينة كاملة تعود إلى مرحلة فجر التاريخ وهي المدينة الوحيدة التي ترجع إلى هذا العهد في القسم السوري من وادي الفرات، وشيد فيها أقدم نموذج للعمارة المنظمة والتحصين في العالم، وتصنف كأفضل مدينة أثرية في العالم حفظا، شيدت ونظمت وفقا لتخطيط مسبق على مساحة تقدر بـ18 هكتار في منتصف الألف الرابع ق.م، حيث أنشأت الأبنية والمساكن المتعددة المخططات والمساحات على محور واحد يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويتألف من شارعين رئيسيين، وأقيمت البيوت حولهما، وتتصل بهما شوارع فرعية، وبنيت المنازل وفقا للطراز المعماري الرافدي المؤلف من صالة رئيسية في الوسط وصفين من الغرف الأصغر على الجانبين، أو وفقا للطراز المحلي المؤلف من صالة واحدة كبيرة تطل على صحن داخلي، وقد شيدت على جوانب هذه المنازل ذات الطراز الرافدي والمحلي شبكة من الشوارع الرئيسية والفرعية، فضلا عن المشاغل والمستودعات، وزودت المدينة ببوابات وبشبكة من الأقنية المائية المغلقة والمفتوحة، واكتشف في موقع تل حبوبة الكبير نظام لسحب وتصريف المياه التي كانت تصب في الأودية المجاورة للمدينة بواسطة أنابيب من الفخار تعد الأقدم في العالم.
أحيط الموقع من جهة الشمال والجنوب والغرب بسور دفاعي مزدوج مبني من اللبن المجفف على شكل مستطيل يبلغ عرضه ثلاثة أمتار وطوله 600 متر، ويضم بوابتين رئيسيتين وهو مدعم بأبراج دفاعية مستطيلة الشكل وأعمدة بارزة، ويعد النموذج الأفضل حفظا المكتشف في العالم حتى الآن.
وتؤكد هذه الاكتشافات بحسب السيد أن نشوء المدن في العالم وتطورها بدأ من سورية ومنها انتقل فيما بعد إلى جنوب بلاد الرافدين.
ولفت السيد إلى أنه في سورية أيضا بنيت أقدم بيوت في العالم مبنية بطريقة منتظمة وأرضيتها صلبة رسمت بالكلس باستخدام النار، ولها أساسات وبنيت جدرانها من الطين المجفف دون تعريضه للحرارة، وقد اكتشفت في موقع تل حالولة الأثري وتؤرخ بالألف الثالث ق.م. وفي تل حالولة ظهر نموذج معماري أكثر تعقيدا من بقية المواقع تمثل بتغير شكل البناء وتقسيم الغرف إلى أجزاء كثيرة و لكل جزء وظيفته الخاصة.
و في سورية بني من الطين والقش أقدم منازل في العالم على شكل خلية نحل يؤرخ أقدمها بحوالي 3700 ق.م ومكن هذا التصميم من الطين من خزن الحرارة والبرودة والرطوبة، لأن جدارا من الطين بسماكة 40 سم يحفظ الحرارة لخمس عشرة ساعة.
وتابع السيد: وفي سورية يصنف مخطط مدينة ماري كأفضل مخطط لمدينة أثرية مؤرخة بعصر البرونز ففي مملكة ماري تم بناء السور، ثم شيدت الأبنية داخله، وكان التوسع العمراني يتجه من المركز إلى السور، وكان مخطط مدينة ماري الأصلي على شكل دائرة قطرها 19 كم رسمت وخطط لها كأفضل تخطيط وكان للمدينة ميناء يتصل بقناة مائية مجهزة مع نهر الفرات تؤمن الماء وتسهل وصول السفن التي كانت تبحر من ماري وإليها، وكانت المدينة محاطة بسور من كافة جهاتها عدا جهة النهر.
واستطرد السيد: في سورية كانت مدينة عمريت من أكبر مدن الشرق على البحر المتوسط وأبرز مدن الساحل الكنعاني-الفينيقي وتصنف اليوم كواحدة من أندر المدن الأثرية في العالم التي حافظت على أصالة حضارتها ولم تبن الحضارات اللاحقة على أنقاضها وإنما إلى جوارها.
وخلص السيد إلى أن هذه الاكتشافات توثق بالدليل الأثري واللغوي النصي والعمراني والتخطيطي والتنظيمي أن سورية هي مهد الحضارات ومنطلق المدنية ومفهومها، ففيها ظهرت أقدم القرى وأقدم المدن وأقدم النماذج العمرانية المدنية والدفاعية الأثرية، وأقدم نماذج الكتابة والعد والإحصاء، وأقدم الرسوم في العالم على حائط مبني من قبل إنسان، ليؤكد ذلك أن ظهور العصر الحجري الحديث وظهور مفهوم المدنية في سورية قد سبق ظهوره في القارة الأوروبية وسائر أنحاء العالم.