ربما يكون جمال عبد الناصر هو أكثر شخصية مصرية مختلف عليها حتى الآن، فلا تمر مناسبة لها علاقة بعبد الناصر إلا ويتعرض لهجوم من منتقديه، ويتصدى له محبوه، وتتحول مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات مبارزة يستخدم فيها الطرفان ما يملكونه من أسلحة تؤيد وجهة نظره.
ورغم أن مبررات كل فريق باتت مستهلكة، إلا أن المعركة تقام في كل مرة، إلا أن ما أقدم عليه الكاتب الصحفي المصري، مصطفى بكري، يمكن وصفه بالسلاح الذي يقلب الموازين.
بكري استطاع الحصول على وثائق مهمة، تكشف عن جمال عبد الناصر في واحدة من أكثر الأوقات ارتباكا في تاريخه، بل وفي التاريخ المصري بأسره.
جمع بكري محاضر اجتماعات مجلس الوزراء المصري، واللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي في شهري يوليو وأغسطس من عام 1967، ونشرها في كتاب من خمسة أجزاء تحت عنوان "ناصر67… هزيمة الهزيمة" (المكتبة الأكاديمية)، وقامت جريدة المقال المصرية بنشر أجزاء منه.
في بعض من هذه المحاضر ينتقد جمال عدة أمور تتعلق بالشئون الداخلية، ومن بينها وثيقة عبارة عن محضر اجتماع عقد بمجلس الوزراء في 30 يوليو 1967، تحدث فيه جمال عبد الناصر عن انتقاده للأوضاع السائدة، ومنها قضية "الاشتراكية".
في هذا الاجتماع يقول عبد الناصر "البعض يتعامل معها (الاشتراكية) في التطبيق على أنها تكية". فرد عليه عبد الوهاب البشري (عضو اللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي) بالقول: "العيب ليس في الهيكل التنظيمي فهو سليم ومستند إلى أسس سليمة، لكن المشكلات متعلقة بأسلوب العمل وسلوك الأفراد" وتحدث عن قصور واضح في أداء التنظيم السياسي "الاتحاد الاشتراكي العربي"، وربط البشري بين الإدارة وعلاقتها بالتنظيم السياسي.
وتشير الوثيقة إلى أن عبد الناصر رد على ملاحظات البشري في الاجتماع ذاته، والخاصة بالإدارة وعلاقتها بالتنظيم السياسي بالقول: "أنا رأي إن الإدارة الرأسمالية هي الناجحة، وأنه يجب أن نتبع أسلوب إن إحنا بناخد الشخص الصحيح والشخص غير السليم يمشي (يفصل)، وإلا إذا ما كانتش العملية بهذا الشكل وبقينا بناخد ناس ونكدسها ونديهم ماهيات (رواتب) أول الشهر مهما حصل لن يحدث شيئ".
وتابع عبد الناصر، "علشان ننجح لازم نتبع الأسلوب الرأسمالي فى الإدارة. وأنا فى كلمة أخيرة قلت: إن مافيش حاجة اسمها إدارة رأسمالية وإدارة اشتراكية، وفيه ناس اعترضوا على تعليقات فلسفية، وكان بدي أرد عليهم وأشوفهم!"
ويعود جمال عبد الناصر في اجتماع آخر، ويؤكد على نفس المعنى، وقال: "أنا رأيى أن الإدارة الرأسمالية هى الإدارة الناجحة (…) فالحقيقة فى النظام الرأسمالى، فهو نظام معروف.. كل واحد ماشى كويس قاعد فى الشغل، إذا كان مش ماشى كويس بيمشى! بدون الحقيقة ما نعمل هذا الموضوع لن تستقيم العملية كلها بالنسبة للناس كلها".
وفي هذا المحضر يقول عبد الناصر "ماباقولش (لا أقول) إن الإدارة الرأسمالية كاملة ١٠٠٪ لأن طبعا فيها أوضاع (أخطاء).. ناس قرايب وناس أصحاب وناس كذا، ولكن العملية إن الشخص المجد بيتاخد والشخص اللى مالوش لازمة مايقعدش (يفصل)!"
وتابع: أنا باعتبر أنه آن الأوان إن إحنا نبص (ننظر) في العملية بهذا الشكل، ولكن عملية تكديس الناس (الموظفين) بدون داع، وكل واحد بياخد ماهيته (راتبه) أول الشهر سواء اشتغل أو ما اشتغلش (لم يعمل)، سواء جه (حضر) أو ماجاش (لم يحضر)، لن توصلنا إلى أي شيء".
وفي محضر ثالث، تحدث عبد الناصر عن النظام الرأسمالي كذلك وقال "النظام الرأسمالي نظام معروف، وكل واحد ماشي كويس قاعد في الشغل، أما إذا كان مش ماشي كويس بيمشي، وبدون هذا الموضوع لن تستقيم العملية كلها".
في محاضر أخرى جمعها الكتاب، يتحدث عبد الناصر عن أهمية وجود المعارضة، ويلمح إلى عودة الحياة الحزبية، معتبرا أنها قد تكون حل لمشكلات النظام السياسى فى مصر وقتها، وطرح اسم كمال الدين حسين وعبد اللطيف بغدادى، لقيادة أحزاب المعارضة، وقال عبد الناصر في محضر اجتماع: "ميزة المعارضة، إنها حتصطاد لك الغلط، مطلوب منى أنا أقوّم أخطاء الدنيا كلها، أنا آسف لن أستطيع.. لا يمكن".
وقال: "أنا متصور إن إحنا لو مشينا فى السكة اللى إحنا ماشيين فيها دى نبقى لبسنا البلد مصيبة كبيرة جدا وجنينا عليها بكل الكلام اللى بنقوله، ولكن طالما إحنا مابنتحاسبش على أى أخطاء منّا، ولكن لو وجدت معارضة حقيقية، كل واحد عامل حسابه إن هذه المعارضة خطر على وجوده فى الوزارة وفى العمل السياسى، وإنه لو راح عمل العملية الفلانية يتفضح تانى يوم فى البلد".
وفي جانب آخر من الكتاب تحدث عبد الناصر في محضر لمجلس الوزراء عن حرية الرأي والتعبير في الصحافة، واعترف ناصر في هذا الاجتماع أن هناك أزمة في حرية الصحافة.
تسجل المحاضر قول عبد الناصر: إذا أردنا نعمل خير فى البلد دى، لازم نتحرر من الخوف أولا… ولا يمكن نعمل ده بإجراء ولا بكتابة ولا بقلم.. مش ممكن(…) ده هيكل (محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير جريدة الأهرام وقتها) بيكتب لأنى ضامنه، وهو عارف ما حدش حايسمه (يتعرض له) طالما أنا موجود، وإلا ماكانش كتب على (عزت سلامة)، وهو أخذ إذن منى وقلت له: اكتب، لكن مين يقدر يكتب إلا لما ياخد الأمان؟!".