الخطير في الأمر أن الخسائر الناتجة عن أخطاء المترجمين تصل إلى حد خسائر في الأرواح مرورا بتعكير صفو علاقات بين الدول وخسارة الاستمتاع بالأعمال الفنية والأدبية، فعلى حسب موضع الخطأ تكون العاقبة.
مترجم أزهق 170 ألف روح
تكفي معرفة أن أبشع مذبحة في التاريخ الحديث وقعت بسبب خطأ في الترجمة، فإلقاء القنبلة النووية على هيروشيما وناجازاكي عام 1945، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 170 ألف شخص.
ففي عام 1945، قررت دول الحلفاء إعلان بيان طالبوا فيه الحكومة اليابانية باستسلام غير مشروط، مؤكدين أن أي رد سلبي من قبل اليابان على هذا البيان سيتسبب لها في الدمار الشامل والفوري.
وعندما سُئل رئيس الوزراء الياباني حينها كانتارو سوزوكي، عن رده على البيان أجاب بكلمة "لا تعليق"، والتي تنطق باليابانية "موكوساتسو"، لكن للأسف فإن هذه الكلمة لها عدة مرادفات بالإنجليزية ومنها ما يعني "الرفض" أو التجاهل.
اختار مترجمو وكالات الأنباء العالمية المعنى الذي يفيد بأن بيان دول الحلفاء لا يستحق التعليق من الجانب الياباني، وهو ما أشعل غضب الأمريكيين فكانت الأوامر واضحة بإلقاء القنبلة النووية على آلاف الأبرياء الذين راحوا ضحية خطأ المترجمين وتهور الأمريكيين.
هذه حادثة من بين عشرات الأزمات الدبلوماسية والسياسية، ربما أقل دموية، وقعت بسبب مترجمين لم يتحروا الدقة في إيصال المعنى من المتحدث إلى المتلقي، قس على ذلك مشاكل صحية خطيرة وقعت بسبب أخطاء في ترجمة وصفات طبية، أو أزمات قانونية أفقدت أناس حقوقهم وحرياتهم أو مشاكل أسرية واجتماعية.
من يحكم على جودة الترجمة؟
الأمر يستحق تتبع منبع أخطاء الترجمة، ومحاولة تفاديها بقدر الإمكان، لكن ينبغي في البداية الاتفاق على أن الأخطاء لها درجات متفاوتة، تتراوح ما بين خطأ يعكس المعنى تماما، وخطأ يبتعد عن المعنى وخطأ يعطي معنى مقارب وليس دقيق.
ثانيا ينبغي الاتفاق على أن أحد أهم المعايير للحكم على جودة الترجمة هو ذلك الشعور بالارتياح عند قراءة النص المنتج، وعدم الشك في أن صاحب الأفكار الواردة بالنص ينطق بنفس اللغة المكتوبة وليس لغة أجنبية، وهو شعور يسهل على أي قارئ إدراكه ولو كان مبتدئا.
لا يقل أهمية عن سلاسة العبارات، سلامة المعنى، جميعا نكره التكرار الممل، لكن هذا لن يمنعني من التأكيد مجددا على أهمية سلامة المعنى وليس سلامة اللفظ، فالمتحدث بلغة أجنبية لا يريد إيصال نفس عدد ما نطقه من كلمات، لكنه بالتأكيد يريد إيصال فحوى ما قاله بنفس دقة معانيه.
الخطيئة الأم ذات الأذرع
الخطيئة الأم لجميع أخطاء الترجمة، والتي ربما ترقى إلى درجة الجرائم، هي التعامل مع النص الأجنبي كحجر أساس للنص المنتج، بمعنى أن يتأثر المترجم بالصياغة الأجنبية بما يخل بالصياغة العربية الفصحى، ليكون المنتج صياغة هجينة بين اللغتين وإن كانت مكتوبة بأحرف عربية، تلك المشكلة الأم تشبه الأخطبوط الذي تخرج منه أذرع لاتقل خطورة عن الرأس ذاتها.
أحد أبرز أذرع تلك المشكلة هو إقران أفعال بأسماء لم يعتد العرب ذكرها في تعبير واحد، كأن تقول لأحدهم "لقد صنعت يومي" في إشارة إلى أنه أدخل البهجة عليك يوما ما، وهو ما يحدث كثيرا لترجمة التعبير الإنجليزي "You made my day"، أو أن تقول عن نفسك "لقد اختبرت شعورا"، للتعبير عن شعور ما انتابك، وهي ترجمة خاطئة للتعبير الإنجليزي "experience a feeling".
من المؤسف أن بعض من هذه الأخطاء لاقت رواجا واسعا لدى مستخدمي الفصحى في منصات إعلامية شهيرة، حتى بدأت تأخذ طريقها إلى آذان الجماهير، وبالتالي تمرير هذا التشوه إلى اللغة المُعتمدة.
يرى المختصون أن اللغة —أي لغة- كائن حي لا مفر من أن يخضع إلى النمو والتطور، سواء بالتأثر بلغات أخرى أو بمستجدات العصر، لكن هذه القاعدة لا تسري إلا إذا عجزت مفردات اللغة الحالية عن الوفاء بالمعنى المقصود، كأن نستخدم اسم اختراع جديد باسمه الأعجمي للتعبير عن هذا الاختراع بدقة قد لا يفي بها اللفظ العربي.
لكن في الوقت ذاته يحدث أن بعض المترجمين يسيء فهم معنى تطوير اللغة فيدخل عليها تعابير ذات قوالب ثابتة في اللغة الأجنبية محاولا نقلها إلى اللغة العربية بترجمة حرفية فينقل تراكيب غريبة على اللغة تستنكرها أذن الناطقين بالعربية، ليصبح الأمر في النهاية تشويها لا تطويرا.
يأخذنا ذلك إلى قضية المهارات التي يجب أن يتمتع بها المترجم قبل أن نتسرع وندرجه تحت مظلة تلك المهنة، فأساس صنعة الترجمة أن تجيد على الأقل لغتين إجادة تامة، ليس بالضرورة أن تحفظ كما هائلا من مصطلحات اللغة الأجنبية، لكن المقصود بالإجادة هنا هو أن تصل إلى أعمق نقطة في معنى النص الأجنبي وتنطلق منها إلى أعلى نقطة في سلاسة المعنى والتراكيب للنص المنتج.
بالعودة إلى المشكلة الأم في أخطاء الترجمة، وهي الاعتماد على تراكيب وتعابير النص الأجنبي لإنتاج نص باللغة الأم، نجد أن أحد أبرز فروع تلك المشكلة أيضا اقتطاع الحديث خارج سياقه، وهو أن نترجم نصا جامدا دون النظر إلى السياق العام الذي ورد به.
ينتج عن ذلك في بعض الأحيان التباس كبير في المعنى، عندما نترجم المعنى المباشر لحديث ما يبدو جادا وقد يكون قيل في الأساس ضمن سياق ساخر، فعدم الإشارة إلى طبيعة السياق وربما إلى الحالة النفسية للمتحدث سيضع المعنى في مواجهة خطر عظيم، ربما يؤدي في النهاية إلى عكسه تماما.
يتفرع من تلك المشكلة أيضا ضحالة ثقافة المترجم، فلا يصح أن تشرع في ترجمة نص ما دون الإلمام بجميع جوانب الموضوع الأساسي عنه ويحبذ أن يكون المترجم مهتما بقضايا المجال الذي يترجم فيه، إذ أن ذلك سينعكس بشكل مباشر على ترابط أفكار النص المنتج كما سيجنّب المترجم استخدام ألفاظ بلغته الأم لايستخدمها أبناء المجال الذي ينتمي إليه النص.
عند الاحتكام إلى النص الأجنبي للخبر المنشور على النسخة الإنجليزية، اتضح أن المعنى الصحيح له هو أن "محاميّ البيت الأبيض يدرسون المواجهة القانونية فى حال طلب الكونغرس سحب الثقة من ترامب"، هكذا تسببت ضحالة ثقافة المترجم وقلة درايته بالشأن الأمريكي في توريطه في خطأ ساذج لا يقبله المنطق قبل أن يستنكره القانون.
وعلى ذكر الرئيس الأمريكي ترامب، فإن ترجمة تغريداته تتطلب الإلمام بجميع خلفياته السياسية وميوله الشخصية وشبكة علاقاته المعقدة بالسياسيين ومشاهير المجتمع الأمريكي، وهو ما سيساعد على إزالة الغموض الوارد في صياغة بعض التغريدات، وهو ما نقصد به إدراك السياق الواسع للنص، وإلا فلن تخرج الترجمة بالعنى الأدق.
أي لهجة تتحدث؟
يشار هنا أيضا إلى قضية تنوع اللهجات داخل اللغة الواحدة، وخطورة هذا التنوع تكمن في أن المترجم قد تكون دراسته مقتصرة على اللهجة الرسمية للدولة الأجنبية فعند ترجمة نص يحتوي جزء منه على مصطلحات تنتمي إلى لهجات محلية ربما لا يجد لها مقابلا في ما يعرفه من معاجم أو قواميس فيحاول الاجتهاد فيسفر ذلك عن الانحراف عن جادة المعنى الدقيق للنص.
مثال ذلك في اللهجة العامية اللبنانية فعل "ينطر" بمعنى ينتظر، لكن إن قال مصري "أنا نطرت فلانا" فذلك يعني أنه وجه له ضربة قوية أطاحت به بعيدا، فترجمة هذا الفعل إلى لغة أجنبية دون وضع مسألة اختلاف المعنى بين اللهجات من شأنه إحداث كارثة.
حل تلك المشكلة إما الرجوع لأهل اللهجة أنفسهم لاستيضاح المعنى منهم، وذلك في حال عدم الإلمام الكامل باللهجات المختلفة داخل اللغة الواحد، ذلك لأنه في بعض الأحيان يكون هناك بعض الكلمات بنفس اللفظ في اللهجات المحلية لكن لها معاني متضادة في كل لهجة.
ناقل الكُفر
بقي أن نتحدث عن الأخطاء المتعمّدة في عملية الترجمة، والتي للأسف لا يعتبرها بعض المترجمون أخطاء، ويحدث ذلك عندما يكون النص المطلوب ترجمته لا يوافق ميول وأهواء المترجم أو معتقداته الدينية.
ينبع هذا النوع من أخطاء الترجمة من التباس تعريف دور المترجم ذاته، فمن يرتكبون تلك الأخطاء —مع سبق الإصرار- يرون في أنفسهم أوصياء على المتلقي، بمعنى أنهم ينتقون الأفكار والألفاظ التي يرونها صالحة له ويتلاعبون في ما يرونه غير ذلك، وأكثر ما يظهر تلك المشكلة النصوص المتعلقة بالسياسة والدين.
يجد الكثير من المترجمين حرجا كبيرا في نقل النصوص التي تختلف مع معتقداتهم الدينية أو توجهاتهم السياسية دون أن يجروا عليها تعديلات أو أن يقحموا رأيهم الشخصي إما داخل النص على هيئة جملة اعتراضية أو على الهامش، وهو أمر يتنافى مع أبسط قواعد المهنية للترجمة.
المترجم في النهاية ما هو إلى قناة اتصال بين شخصين، فإما أن يقبل بتلك المهمة على أن يتجرد من أهوائه الشخصية لنجاح التواصل، أو أن يرفضها من البداية. الحالة الأشهر في هذا الصدد هي ترجمة نص أجنبي يصف إسرائيل بالدولة، فهناك بعض المترجمين يتطوعون بترجمتها بالـ"الكيان الصهيوني"، وهو خطأ ساذج خاصة إن جاء الحديث على لسان مسؤول إسرائيلي مثلا.
كذلك عند ترجمة نصوص لمؤلفين ملحدين، فلابد وأن بعض أفكاره تقترب من مسألة إنكار وجود إله وما إلى ذلك، فنجد أن بعض المترجمين لا يجدون حرجا في اقتطاع عبارات من النص لأنها تخالف عقيدتهم الدينية أو أن يضيفوا هامشا ينفوا عن أنفسهم تهمة الكفر، متناسين أن "ناقل الكفر ليس بكافر".