القرار كان صادما ومفاجئًا للداخل المصري، والإسرائيلي على حد سواء، وهي نفس المفاجأة التي أصابت العالم كله، وخاصة العالم العربي.
البداية كانت في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1977 عندما وقف السادات تحت قبة مجلس الشعب المصري، يقول في خطاب رسمي "ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم، إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم".
وبالفعل أصابت الدهشة الجميع، فبينما كان يصفق عدد كبير من أعضاء مجلس الشعب وقتها، أصيب رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، الذي كان يحضر في المجلس، بالذهول.
وتسبب هذا الخطاب ومن بعده زيارة السادات إلى إسرائيل فى قطيعة عربية لمصر، ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس.
السادات يدغدغ المشاعر ويحمل رسالة جديدة
لم يمر سوى أسبوع واحد حتى وجه بناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل دعوة رسمية للسادات لزيارة إسرائيل، فقبل السادات الدعوة وتقرر لها أن تكون يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني 1977.
وفي الموعد المحدد هبطت طائرة الرئيس السادات، في مطار بن غوريون في تل أبيب، في لحظة كانت فاصلة في العلاقة بين مصر وإسرائيل، وكذلك في علاقة مصر بمحيطها العربي، وفي تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي كله.
في المطار تم استقبال السادات بشكل رسمي وشعبي، حيث توافد الكثير من سكان تل أبيب لرؤية أول رئيس عربي يزور دولتهم، وتوجه السادات في موكب كبير إلى الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) بينما سكان المدينة يقفون على جانبي الطريق يحملون أعلام إسرائيل ومصر، ويشاهدون السادات الذي جاء برسالة هي الأولى من نوعها لهم، رسالة سلام ينهي حالة الرعب التي يعيشون فيها منذ 30 عامًا من العداء بين إسرائيل العالم العربى.
في البرلمان وقف السادات يلقى الخطاب الأهم، جاء فيه "هناك أرض عربية احتلتها، ولا تزال تحتلها، إسرائيل بالقوة المسلحة، ونحن نصرّ على تحقيق الانسحاب الكامل منها، بما فيها القدس العربية"، وفي جزء آخر من الخطاب قال السادات داعيا إلى السلام "السلام لنا جميعا على الأرض العربية وفي إسرائيل وفى كل مكان من أرض العالم الكبير المعقد بصراعاته الدامية، المضطرب بتناقضاته الحادة، والمهدد بين الحين والآخر بالحروب المدمرة".
ودغدغ السادات مشاعر سامعيه وهو يقول "إن الروح التى تزهق فى الحرب، هى روح الإنسان سواء كان عربيا أو إسرائيليا‘ إن الزوجة التى تترمل.. هى إنسانة من حقها أن تعيش فى أسرة سعيدة سواء كانت عربية أو إسرائيلية‘ إن الأطفال الأبرياء الذين يفتقدون رعاية الآباء وعطفهم هم أطفالنا جميعا، على أرض العرب أو فى اسرائيل.. لهم علينا المسؤولية الكبرى فى أن نوفر لهم الحاضر الهانئ والغد الجميل من أجل أن تنتج مجتمعاتنا وهى آمنة مطمئنة".
وفي تراجيدية اختتم السادات خطابه الذي استمر لحوالي نصف الساعة "أحمل إليكم رسالة السلام رسالة شعب مصر الذى لا يعرف التعصب والذى يعيش أبناؤه من مسلمين ومسيحيين ويهود بروح المودة والحب والتسامح، فيا كل رجل وامرأة وطفل فى إسرائيل شجعوا قياداتكم على نضال السلام ولتتجه الجهود إلى بناء صرح شامخ للسلام، بدلا من بناء القلاع والمخابئ المحصنة بصواريخ الدمار، قدموا للعالم كله، صورة الإنسان الجديد، فى هذه المنطقة من العالم، بشروا أبناءكم أن ما مضى، هو آخر الحروب ونهاية الآلام، وأن ما هو قادم هو البداية الجديدة للحياة الجديدة حياة الحب والخير والحرية والسلام، ويا أيتها الأم الثكلى ويا أيتها الزوجة المترملة ويا أيها الابن الذى فقد الأخ والأب، يا كل ضحايا الحروب املئوا الأرض والفضاء، بتراتيل السلام، املئوا الصدور والقلوب، بآمال السلام".
وكان لهذه الكلمات تأثير كبير على أعضاء الكنيست الذين كانوا يتابعون الكلمة باهتمام وتأثر، وصفقوا للسادات بعد انتهاء كلمته، ولم ينته الأمر هنا، بل بدأت جولات من اللقاءات بين مسئولين مصريين وإسرائيليين للتفاوض حول انسحاب إسرائيل من كامل الأراضي المصرية التي احتلتها إسرائيل في حربها عام 1967، وكذلك بحث الوضع في قطاع غزة والضفة الغربية، وعلاقة إسرائيل بالدول العربية.
استمرت هذه اللقاءات والنقاشات التي كادت تصل إلى طريق مسدود أمام إصرار الجانب الإسرائيلي على عدم الموافقة على الانسحاب الكامل من الأراضي التي احتلتها في سيناء المصرية، ويقابله إصرار الجانب المصري على مطالبه، وهنا تدخل الرئيس الأمريكي جيمي كارتر ودعا السادات وبيجن إلى اجتماعات في كامب ديفيد.
في 5 سبتمبر/ أيلول 1978 وصل الوفدان المصري والإسرائيلي إلى كامب ديفيد، وفي 26 مارس/ آذار 1979، تم في واشنطن التوقيع على معاهدة سلام تاريخية بين إسرائيل ومصر.
اقتراب مع إسرائيل وابتعاد عن العرب
بعد زيارة الرئيس السادات إلى إسرائيل وإعلانه بشكل صريح عن نيته الجادة لتحقيق سلام مع إسرائيل، جاءت ردود الفعل في معظم العواصم العربية رافضة لهذا التوجه، وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1978، عقدت قمة عربية في بغداد، حضرها زعماء الدول العربية عدا عمان والصومال والسودان، وقررت القمة نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة وتعليق عضوية مصر.
وعندما وقعت اتفاقية السلام في مثل هذا اليوم (26 مارس 1979) أعلنت الدول العربية قطع العلاقات مع مصر، وشملت تعليق الرحلات الجوية ومقاطعة المنتجات المصرية وعدم التعامل مع الأفراد، وأصدرت الجامعة العربية آنذاك قرارا باعتبار تونس المقر الرسمي للجامعة العربية وتعيين الشاذلي القليبي، أمينا عاما للجامعة الذي ظل يشغل المنصب حتى عام 1990، وتعرض السادات لهجوم شديد في وسائل الإعلام في أغلب الدول العربية، وبالمثل كان يهاجم السادات قيادات الدول العربية، وخاصة السعودية التي كان يعتبرها من تتزعم الجبهة الرافضة لما قام به في كامب ديفيد.
وتراجعت حدة المقاطعة مع اغتيال الرئيس السادات، وفي مارس عام 1990، عاد مقر جامعة الدول العربية إلى القاهرة بعقد مؤتمر الدار البيضاء الطارئ، واختير وقتها عصمت عبدالمجيد أمينا عاما لجامعة الدول العربية، و انتهت عمليا قرارات قمة بغداد 1978.
استقالات وإقالات لوزراء وسفراء… الصدمة في الداخل أيضا
منذ إعلان السادات الذهاب إلى إسرائيل، والترتيب للزيارة بشكل رسمي، وحتى توقيع اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر، كانت الصدمة قد وصلت إلى الهيكل الحكومي المصري، قبل زيارة السادات إلى إسرائيل بيومين أعلن وزير الخارجية المصري، وقتها، إسماعيل فهمي الاستقالة من منصبه، بعدما رفض مرافقة السادات في زيارته إلى تل أبيب.
وكتب فهمي تفاصيل هذه الأزمة في مذكراته التي وضعها بين دفتي كتاب اسماه "التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط" يقول في جزء منها متحدثا عن السادات: "أراد الذهاب إلى القدس ولم يذكر أبداً السبب. لا ريب أنه لم يزِن القرار بعناية كي يصل في النهاية إلى أنه لا اختيار أمامه إلا الذهاب إلى القدس، ولم يكن مقتنعاً بأن قضية الشرق الأوسط ستذاب وتحل فجأة برحلته".
وافق السادات على استقالة فهمي، وقرر تعيين محمد رياض، وزير الدولة للشؤون الخارجية بدلا منه، وأذاع التلفزيون الرسمي القرار الجمهوري الجديد بتعيين السفير محمد رياض وزيرا للدولة للشؤون الخارجية، إلا أنه وبعد ساعات من هذا الإعلان، أذيع إعلان آخر باستقالة رياض.
وعليه ظل منصب وزير الخارجية المصري شاغرا، واستمر ذلك حتى 25 ديسمبر 1977 عندما تم تعيين السفير محمد إبراهيم كامل وزيراً للخارجية، وسافر كامل في اليوم التالي للاشتراك في مباحثات الإسماعيلية بين مصر وإسرائيل، وفي 5 سبتمبر/أيلول سافر مع الرئيس السادات إلى الولايات المتحدة لحضور مباحثات كامب ديفيد بين السادات والرئيس الأمريكي كارتر، ومناحم بيغن.
وفي 16 سبتمبر/أيلول قدم محمد إبراهيم كامل بوصفه وزير خارجية مصر استقالته للرئيس السادات بعد حديث استمر نصف ساعة، لكن السادات طلب منه عدم إعلانها حتى عودتهما والوفد إلى القاهرة، وغادرت الوفود المصرية والإسرائيلية كامب ديفيد في 17 سبتمبر، وأعلنت استقالة محمد إبراهيم كامل.
وكتب الوزير الذي ظل في منصبه قرابة العشرة أشهر فقط، مذكراته ونشرها في كتاب اسماه "السلام الضائع في اتفاقية كامب ديفيد"، شرح فيه تفاصيل ما حدث معه خلال تلك الفترة التي شهدت مفاوضات توقيع اتفاقية السلام العربية الإسرائيلية الأولى في التاريخ، يقول محمد إبراهيم كامل في مذكراته: "وصلت إلى نهاية المطاف ولا بد من اتخاذ قرار حاسم بالنسبة لموقفي من السادات، فقد استنفدت كل جهدي وبذلك أكثر من طاقتي في محاولة الحفاظ على موقفنا من التآكل".
وهاجم الوزير طريقة السادات في المفاوضات، وقال في كتابه "المشكلة ليست في الموقف الإسرائيلي المتشدد ولا الخنوع الأمريكي لإسرائيل، وإنما المشكلة الحقيقية في الرئيس السادات نفسه فقد استسلم للرئيس كارتر تماماً بينما استسلم الأخير بدوره لمناحم بيغن".
ووصف كامل ما حدث في كامب ديفيد بأنه "مذبحة التنازلات" معتبرا إن "ما قبِل به السادات بعيد جداً عن السلام العادل".
وبعد توقيع الاتفاقية أعلن الفريق أول سعد الدين الشاذلي، (رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في الفترة ما بين 16 مايو 1971 وحتى 13 ديسمبر 1973) من منصبه سفيراً للبرتغال واعتزل العمل السياسي.
وبعد أسبوعين من توقيع اتفاقية كامب ديفيد، أصدر السادات قرارا بإقالة وزير الحربية المشير محمد عبد الغني الجمسي، وقرر تغيير مسمى منصب وزير الحربية إلى "وزير الدفاع".
يقول الجمسي في كتابه "مذكرات الجمسي" أنه "على المستوى الوطني، فإن الاتفاقية وما تلاها من معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل أعادت لنا سيناء بقيود شديدة تضع إسرائيل في الموقف الاستراتيجي الأقوى. وبعد أسبوعين من توقيع الاتفاقية قال لي السادات "لقد بدأت مرحلة جديدة في مصر تستدعي تغييراً شاملاً في أجهزة الدولة".