محور حديثنا اليوم عن الحرب التجارية الأمريكية الصينية، وإصرار واشنطن على مهاجمة الصين وكبح صعودها، لتعود من جديد وتحاول للحد من التمدد الروسي على الساحة العالمية لأن الولايات المتحدة تعي تماماً أنها غير قادرة على مواجهة قوتين عظميتين كروسيا والصين في آن واحد.
حول هذا الموضوع كان لبرنامج "ماوراء الحدث" حوار خاص مع مدير"مركز الدراسات والأبحاث الإنتروستراتيجية" في بيروت الأستاذ صلاح النشواتي.
سبوتنيك: أستاذ صلاح أهلاً ومرحباً بكم
صلاح النشواتي: أهلاً ومرحباً بكم و"بسبوتنيك"
سبوتنيك:ماذا تريد الولايات المتحدة الأمريكية من الصين؟ ولماذا كل هذه المواجهة مع بكين رغم أن بكين وليدة قواعد اللعبة الأمريكية الاقتصادية الدولية؟
سبوتنيك: أنت تتحدث عن مواجهة تشكل أحد مظاهرها الحرب التجارية ما هي المظاهر الأخرى؟ يعني لو تعطينا صورة متكاملة عن كيفية وطبيعة هذه المواجهة؟
النشواتي: بالتأكيد، تواجه الولايات المتحدة الأمريكية الصين بثلاث طرق، الأولى هي الحرب التجارية والتي تسعى واشنطن من خلالها إلى تعديل الميزان التجاري بينهما بالقوة لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، أي ليس فقط الحد من حرية تدفق السلع الصينية إلى الأسواق الأمريكية من خلال فرض الرسوم والضرائب، بل أيضاً تحويل هذا التدفق لمصدر دخل بالنسبة للحكومة الأمريكية لتمويل نشاطاتها فيما بعد ضد الصين نفسها وضد الخصوم الآخرين للولايات المتحدة الأمريكية.
بالرغم من الفائض في الميزان التجاري لصالح الصين بفارق كبير، إلا أن هذا الفارق يتحول إلى سلاح بيد واشنطن في الحروب التجارية، ومع ذلك الربح في هذه الحرب ليس بهذه السهولة، فعلى الولايات الأمريكية أن تبدأ بالإعتياد على غياب الخدمات الصينية الأساسية، كبدء الصين بالتوقف عن إستيراد القمامة من أمريكا لتدويرها، وأيضاً غياب السلع الرخيصة والتي تعطي قيمة مضافة لدخل الفرد الأمريكي وما لذلك من تبعات على دورة الإنتاج والإستهلاك في الإقتصاد الأمريكي، لذلك لايمكن أن تستمر هذه الحرب التجارية طويلاً، أو أن تأخذ أشكالاً تصعيدية بشكل أكبر (كإستخدام السندات الحكومية التي تملكها بكين ضد أمريكا والتي تبلغ 1.1تريليون دولار)، كون إقتصاد البلدين مرتبطين ببعضهما البعض، بحيث أي عملية تصعيد خطيرة في هذه الحرب ستهدد كلا الطرفين، يعني بالمحصلة هي ليست أكثر من أداة للضغط نحو التفاوض، ولكسب الوقت نحو تطبيق طرق أخرى يمكن أن تحتمل التصيعد في المواجهة دون الإضرار الكلي بالفاعل.
أما الطريقة الثانية: فتكمن في إفتعال الأزمات الجيوسياسية في محيط الصين، ومحاولة إفقاد الصين السيطرة والنفوذ على المجال الجيوسياسي المحيط بها، لإعاقة المشاريع الإستراتيجية الصينية البحرية والبرية، وقد بدأت هذه العملية منذ إفتعال أزمة الجزر المتنازع عليها مع الفلبين وقرار المحكمة الدائمة للتحكيم لصالح الفلبين، إلا أن ذلك لم يؤتي النتائج المطلوبة بسبب جنوح الرئيس الفلبيني نحو التحالف مع موسكو وتعزيز العلاقة معها، بينما تستمر واشنطن في ذات النهج من مينمار و توقيت تعويم قضية الروهينغا المسلمة التي تقطن الساحل المطل على خليج البنغال وهو الساحل التي تقوم فيه اليوم كل من القوات البحرية الأمريكية والفرنسية واليابانية والأسترالية بمنوارات عسكرية، إلى رفع درجة التوتر الهندي-الباكستاني حيث شهدنا مؤخراً حوادث خطيرة في هذا الشأن، وصولاً إلى إستخدام ملف حقوق الإنسان لإستهداف إقليم "شينغيانغ" ذي الأغلبية المسلمة والذي يعتبر الركيزة الجيوستراتيجية للمشاريع الصينية وصلة الوصل مع آسيا.
الطريقة الثالثة: تكمن في سعي واشنطن لتسليح البيئة خدمة لمصالحها، فانسحاب دونالد ترامب من اتفاقية المناخ لم يكن أكثر من وسيلة لمواجهة الصين، فمن جهة يقوم بتوفير إستهلاك النفط لصالح الفحم الحجري الموجود بكثرة في أمريكا لتحقيق مكاسب إقتصادية أكبر، ومن جهة أخرى تعود أمريكا لتضغط على النظام البيئي للكوكب بشكل كامل، ما سيدفع المجتمع الدولي والدول المسؤولة عن الإنبعاثات الكربونية إلى الضغط على بعضها البعض للخفض السريع من ضخ الكربون في الجو، وسيتناسب هذا الضغط بالضرورة مع حجم أسواق الطاقة ونموها في العالم، وبما أن الصين هي أكبر هذه الأسواق فهي المعني الأول بهذا الضغط الناجم الذي يترجم بأعباء جديدة على الإقتصاد الصيني يعيق النمو ويؤثر بها، إضافة إلى أن الصين تعاني بالأساس من مشاكل نضوب الموارد المتجددة في بيئتها المحيطة وتسعى تعويض هذا الضغط على مواردها بالتوسع الجيوسياسي، وهو الأمر المتعذر القيام به في حال الإستمرار الأمريكي بمحاولة إفتعال وإدارة الأزمات الجيوسياسية ضد الصين.
هذه المواجهة التي تخوضها واشنطن ضد الصين للتمسك الأمريكي بالسطيرة على العالم، تثبت أن الإدارة الأمريكية تجاوزت شعار أمريكا أولاً إلى شعار الأحادية الأمريكية أو تدمير الكوكب والبشرية.
سبوتنيك:ألا يمكن للتحالف الصيني الروسي في هذه الحالة أن يزيل الضغوط على بكين في المواجهة الأمريكية سواء في الحد من قدرة واشنطن على افتعال الأزمات الجيوسياسية أو من خلال الغاز الروسي لمواجهة آثار استخدام البيئة كسلاح ضاغط على النمو الإقتصادي الصيني من قبل الإدارة الأمريكية؟
النشواتي: كلام صحيح ولا غبار عليه، ومن هذه البوابة بالتحديد سعت بكين لتطوير علاقتها مع موسكو والإنتقال حتى إلى طور الشراكة الإستراتيجية، ومد أنابيب الطاقة والغاز كبديل صديق للبيئة، خاصة أن موسكو تعاني أيضاً من مشكلة إفتعال الأزمات الجيوسياسية مع واشنطن أيضاً، وتسعى نحو عالم متعدد الأقطاب، أي ثلاث قوى كبرى تسعى لأن تحقق أهدافها وطموحها، وبكين تعي تماماً إمكانية جذب موسكو لبناء تحالف إثنان ضد الثالث، ولكن المشكلة تكمن في الرؤية الروسية لعالم متعدد الأقطاب والرؤية الصينية بإستبدال الدور الأمريكي الأحادي بقيادة النظام الدولي بالدور الصيني.
ما سبق يعني أن موسكو في النهاية ترى كل من الرؤية الأمريكية والرؤية الصينية خطراً مستقبلياً على رؤيتها لعالم متعدد الأقطاب، الذي يؤدي بدوره إلى زيادة حدة وشدة الإستقطاب الدولي نحو تغيير الإصطفافات والتحالفات غير المستقرة.
سبوتنيك: أفهم من حديثك أستاذ صلاح أن تحالف بكين موسكو ليس تحالفاً مستقراً؟
سبوتنيك:هذا يعني أنك تعتقد بأن البيت الأبيض قد أخضع الاستراتيجية الأمريكية لتعديلات غير معلنة؟
النشواتي: بالضبط هذا ما أتكلم عنه، هذه التعديلات جعلت من الإدارة الأمريكية تعمل بنصيحة كسينجر بالتحالف مع موسكو ضد بكين، على شاكلة التحالف مع السوفييت ضد النازية ومن ثم الإنقلاب عليهم، أو على شاكلة التحالف مع الصينين فيما بعد ضد السوفييت في عهد الرئيس نيكسون والآن تنقلب أمريكا على الصينيين أيضاً.
وتطبيق التحالف العملي مع موسكو ضد بكين يكمن في تحييد دور موسكو بالتصدي للجهود الأمريكية في افتعال الأزمات الجيوسياسية في محيط الصين الحيوي أو في مناطق نفوذها كفنزويلا مثلاً، والذي سبب التدخل الروسي بعرقلة مشروع البيت الأبيض وتعقد الأوضاع فيها، حتى يتسنى لواشنطن تطويق الصين بشكل جدي وتفكيك مشاريعها وبناها الإستراتيجية الحالية أو المستقبلية منها.
طبعاً مجرد تعديل الإستراتيجية الأمريكية العامة بهذا الشكل وقبل حتى إنتهاء الولاية الأولى لترامب يعني أن الإدارة الأمريكية تعاني وتتألم وبشكل كبير، ويعني أيضاً أن ذات الإدارة قد إصطدمت بواقع أنها لم تعد تستطيع تطويع ومعاداة الجميع بل هي بحاجة للدبلوماسية والسياسة من جديد بعد أن جسّد وصول ترامب بأسلوبه الشعبوي للسلطة قمة الغطرسة الأمريكية والتخلي عن اللياقة والدبلوماسية والعمل السياسي الحقيقي.
والصادم في الأمر أن مسار ترامب من الناحية الإستراتيجية بدأ يتشابه من حيث الشكل مع مسار سلفه أوباما والذي أدى فشل استراتيجيته وتعديلها إلى التراجع التي تعيشه أمريكا اليوم، بالمجمل هذا يرشح أن يكون هناك فشل جديد للولايات المتحدة وذي وقع أشد تأثيراً من فشل أوباما، ولكن الدور الرئيس ومفتاح فشل أو نجاح واشنطن يكمن في موسكو وإدارتها لتحالفاتها بالشكل الصحيح والواعي بعيداً عن تكرار أخطاء الماضي.
سبوتنيك: يبدو أننا أستاذ صلاح بحاجة إلى المزيد من اللقاءات حتى نوضح أثر هذه التعديلات ليس فقط على المواجهة مع الصين بل على باقي الأجندات والأزمات الجيوسياسية في العالم.
النشواتي: نعم بالتأكيد
سبوتنيك: أستاذ صلاح شكراً جزيلاً لكم على هذا الحوار القيّم والمثير ونتمنى أن نتابع في لقاءات قادمة تفاصيل أكثر
النشواتي: نعم بكل سرور، شكراً جزيلاً لكم ولوكالة "سبوتنيك" التي تحاول كشف الحقائق والتعّمق فيما يجري حول العالم.
سبوتنيك: أهلاً بكم وعلى الرحب والسعة.
أجرى الحوار: نواف إبراهيم