نساء في تونس كسرن هذه القاعدة واكتسحن عالم المهن الشاقة، إما استجابة لطموحهن في تعلم اختصاصات كانت تمثل حلمهن منذ الصغر ولرغبتهن الخاصة في كسر قاعدة المهن الرجالية، أو لظروف اجتماعية حتمت عليهن العمل في مثل هذه المهن مع تقلص فرص التشغيل وارتفاع معدلات البطالة، ومحدثتنا "لمياء الدريدي" مثالا.
بصمود امرأة أربعينية خبرت الحياة وتجرعت من مر تجاربها، تستقبل لمياء الدريدي وهي أصيلة محافظة أريانة الواقعة شمال غرب العاصمة تونس يومها، استعدادا لخوض رحلة يومية في شوارع العاصمة مع زبائنها من راكبي سيارات الأجرة "تاكسي".
رحلة شاقة اعتادت محدثتنا القيام بها منذ ما يزيد عن تسع سنوات، متحدية بذلك السائد وراسمة صورة جديدة عن نساء تونس "الحربيات" كما تصفهن.
وأكدت لمياء الدريدي لوكالة "سبوتنيك"، أن اختيارها لهذا العمل الذي تصنفه فئة كبيرة من مجتمعها بالرجالي، نابع عن حبها لمهنة القيادة. فمنذ تحصلها على شهادة الكفاءة المهنية من الوكالة الفنية للنقل البري أواخر 2010، باشرت محدثتنا مهنتها كسائقة لسيارة الأجرة، لتبدأ بذلك رحلة طويلة تصفها بالممتعة والشاقة في آن واحد.
فمع ما تتصف به شوارع العاصمة التونسية من اكتظاظ وارتفاع درجات الحرارة صيفا وطول ساعات العمل في شهر رمضان، تحاول لمياء إضافة خلطة من المتعة والشغف على عملها بفتحها حلقات من النقاش والمسامرة مع حرفائها، وهو يدفع الكثير منهم إلى إقامة علاقة صداقة معها تستمر خارج أوقات العمل.
وقالت لمياء "رغم الظروف الأمنية الصعبة التي رافقت التحاقي بهذا العمل ودخول البلاد في حالة من الفوضى العارمة آنذاك رافقتها أعمال عنف ونهب وسرقة، تمسكت بقيادة التاكسي لأوقات متأخرة من النهار، وقد ساندتني في ذلك عائلتي رغم حالة الخوف التي اختلجت صدورهم في تلك الفترة".
وتتابع "نساء تونس أثبتن قدرتهن على الخوض في جميع المهن ومزاحمة الرجال حتى في الأعمال الشاقة بفضل عزيمتهن وما تمتلكنه من قدرة على مواجهة الصعاب والتحمل في سبيل كسب الرزق وإعالة أسرهن".
وتؤكد لمياء أنها ليست المرأة التونسية الأولى التي تمتهن قيادة "التاكسي"، ففي العاصمة فقط توجد ما يناهز 50 امرأة تشاركها في هذا العمل، ورغم أن هذا العدد يعد قليلا مقارنة بنظيرها من الرجال، فإنه يعتبر دليلا على تغير نظرة المجتمع للمرأة وللصورة النمطية التي اعتادت حصرها في الأعمال المنزلية وشؤون المطبخ.
وأضافت لمياء الدريدي لوكالة "سبوتنيك"، أن الظروف الاجتماعية الصعبة تقود الكثير من النساء في تونس إلى امتهان الأعمال الصعبة نظرا لانعدام فرص العمل. فنسب البطالة في تونس بلغت 15.3 في المئة خلال الثلاثي الأول من السنة الجارية، وتصل نسبة العاطلات عن العمل من الإناث إلى 22.6 بالمائة، وفقا لمعطيات محيّنة للمعهد الوطني للإحصاء (هيكل عمومي يتبع وزارة التنمية يعنى بتقديم الإحصائيات الرسمية).
وأكدت محدثتنا، أن عددا لا بأس به من النساء ممن فقدن أزواجهن أو هُجرن تجبرن على امتهان الأعمال الرجالية لتُعِلن بها أبنائهن.
وأضافت لمياء، أن عملها في قيادة سيارة الأجرة مكّنها من كسب قوت أبناءها بعد طلاقها من زوجها الذي لا يتحمل معها نفقات أولاده الثلاثة. وتضيف أنها تحرص على تلبية حاجيات أطفالها من خلال العمل لساعات طويلة تبدأ من ساعات الصباح الأولى وتنتهي ليلا.
ولا تخفي محدثتنا ما رافق مهنتها من صعوبات خاصة في سنوات عملها الأولى، قائلة "واجهت العديد من المضايقات خاصة من زملائي في العمل من الرجال الذين ينظرون لي نظرة دونية ويعتبرونني منافسة لهم في مهنة صنّفت لسنوات كعمل ذكوري لا مكان فيه للمرأة".
وتؤكد لمياء أن هذا لم يزدها إلا إصرارا على مواصلة العمل وبذل جهد أكبر في إرضاء زبائنها. وتعتبر لمياء أنها نجحت في ذلك خاصة مع ما كسبته من ثقة واسعة في صفوف حريفاتها من النساء تحديدا اللاتي تفضلن ركوب سيارة الأجرة بقيادة نسائية وتحرصن على الاتصال بها لنقلهن إلى إحدى وجهات العاصمة.
وتستحضر لمياء طرائف إحدى زبوناتها التي اعتادت النوم في سيارتها خلال مرافقتها لها إلى منزلها بعد ساعات طويلة وشاقة من العمل، مضيفة أن "القيادة النسائية تشعر زبائنها بالأمان في ظل انتشار ظواهر الغش والتحرش والسرقة وتزايد عدد الدخلاء على المهنة في السنوات التي تلت الثورة.
وتتابع "أعتقد أن المرأة تمتلك القدرة على الصبر والتحمل أكثر من الرجل وهذا يرجع إلى طبيعتها الأنثوية واعتيادها على إدارة شؤون عائلتها، وهو ما ينعكس حتما على طريقة تعاملها مع حرفائها في العمل، وأنا لا أقلل بذلك طبعا من شأن الرجل". وتضيف أن مهنة قيادة "التاكسي" تتطلب الكثير من رحابة الصدر نظرا لتنوع الزبائن واختلاف طباعهم.
وتختم لمياء قولها "الرضا الذي أخلفه في قلوب حرفائي والابتسامة التي أرسمها على وجه أطفالي هي مكافئتي على ما أبذله من جهد أثناء عملي كسائقة لسيارة الأجرة"، آملة أن تنتشر مهنتها في صفوف أبناء جنسها وأن لا تكون بعض المهن حكرا على الرجال دون غيرهم.