يأتي الهجوم على اللغة ممن يتحدثونها في المقام الأول، بهجرها في تعاملاتهم اليومية، وعدم الاهتمام بدراستها والتعمق فيها، رغم أنها الوعاء الحافظ للهوية العربية.
وكانت اللغة العربية مثار فخر واعتزاز ممن يتحدثون بها على مدار قرون، وكتب فيها شعر كثير من بينه كتب الشاعر العباسي أبو الطيب المتنبي مادحا اللغة العربية فقال "بها الفن تجلى/ وبها العلمُ تباهى/ كلما مرّ زمان/ زادها مدحا وجاها/ لغة الأجداد هذي رفع الله لواها"، وكذلك ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي "إن الذي ملأ اللغاتِ محاسنًا/ جعل الجمال وسره في الضاد"، ويقول يقول الشاعر خليل مطران: "يا أميرا أهدى إِلى لغة الضاد كنوزا من علمه وبيانه".
واعتمدت إدارة الأمم المتحدة لشؤون الإعلام قرارا عشية الاحتفال باليوم الدولي للغة الأم الذي يُحتفل به في 21 شباط/فبراير من كل عام بناء على مبادرة من اليونسكو، للاحتفال بكل لغة من اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة. و تقرر الاحتفال باللغة العربية في 18 كانون الأول/ديسمبر كونه اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة 3190(د-28) عام 1973، والذي قررت الجمعية العامة بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة.
انتشرت العربية في بلدان كثيرة بفضل حركة التجارة التي انتشرت في الجزيرة العربية منذ مئات السنين، ثم بفضل ما اصطلح على تسميته "الفتوحات العربية".
وتصنف اللغة العربية بأنها واحدة من أكثر اللغات انتشارًا في العالم، بحسب الأمم المتحدة، ويتحدث بها أكثر من 422 مليون نسمة ويتوزع متحدثوها في المنطقة المعروفة باسم الوطن العربي، بالإضافة إلى العديد من المناطق الأخرى المجاورة كالأحواز وتركيا وتشاد ومالي السنغال وإرتيريا.
وتداخلت مع لغات هذه البلدان الجديدة، وتفاعلت معها، ورغم أن هذا الأمر وارد في كل اللغات بأن تأخذ من بعضها بعضا، إلا أن المخاوف باتت مؤكدة على مستقبل العربية، بين متشائم يتوقع اندثارها، وبين متفائل يعتقد أن اللغة كائن حي مرن لن ينتهي لكنه يمكن أن يضعف فقط.
هذان الفريقان رغم كل اختلافهما يتفقان على أن الفصحى تعاني الكثير، تظهر تلك الأزمة في مجالات الإعلام، والأدب والخطابة، والمدارس، وكذلك في المعاملات اليومية بين المتحدثين بالعربية.
وظهرت معالم هذه المشكلة في أسماء الشركات والمحال التجارية ودور السينما ومحال الترفيه التي أصبحت تحمل لافتاتها أسماء عامية أو باللغات الأجنبية.
وسط هذه الحالة ظهرت صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، تدعو إلى إحياء اللغة العربية بين الشباب (كونهم أغلبية مستخدمي مواقع التواصل)، تستخدم أغلب هذه الصفحات لغة بسيطة، تشجع الشباب على تعلم قواعد اللغة من خلال رصد بعض الأخطاء في التعاملات اليومية للمتحدثين بالعربية، وتعلق عليها في الغالب بطريقة ساخرة.
وجذبت هذه الصفحات مئات الآلاف من المتابعين، الذين يتفاعلون مع ما تقدمه هذه الصفحات بشكل متواصل، مؤكدين دورها في إعادة تعريفهم بلغتهم العربية، ومساعدتهم في الكتابة والتحدث بلغة سليمة.
ومن بين أشهر الصفحات التي تولت هذه المهمة، صفحة "نحو وصرف" التي أنشئت على "فيسبوك" في أكتوبر 2015، ويتابعها حاليا أكثر من 600 ألف متابع، وكذلك صفحة "اكتب صح"، التي أنشئت عام 2013، ويتابعها أكثر من 120 ألف متابع، وأيضا صفحة "كبسولات لغوية" التي يتابعها قرابة 350 ألف متابع.
الشاعر والكاتب الصحفي، محمود عبد الرازق، مؤسس صفحة "نحو وصرف" على موقع "فيسبوك"، يرى أن "اللغة العربية مهددة من جانب، وراسخة من جانب آخر، الجانب المهدد هو التفات العرب عنها واهتمامهم بغيرها من اللغات، بسبب متطلبات سوق العمل. والجانب الراسخ هو قواعدها التي لا تتغير مهما تغيّرت حال العرب".
ويضيف عبد الرازق في حديثه مع "سبوتنيك": "أما اللغات الأخرى كالإنجليزية والعامية وغير ذلك فليست في ذاتها مما يهدد اللغة العربية، لأن هذه اللغات موجودة من قبل وجود اللغة العربية، ووُجدَت معها العربية ونضجَت وقوِيَت، فلا تعارُض بينها وبين هذه اللغات، والوجود البشري يسع جميع اللغات".
ويتابع عبد الرزاق: "المشكلة الأساسية التي تواجه اللغة العربية حاليًّا هي طريقة عرضها في المناهج الدراسية، لأن هذه المناهج تعتمد على الشكل الأكاديمي للعرض بأمثلة منفصلة عن الواقع، بما يجعل دراستها منفصلة عن عقول طلاب العلم، فيعرفون منها ما ينجحون به في الامتحانات فقط".
ومن جانبه يقول حسام مصطفى إبراهيم، مؤسس صفحة "اكتب صح" على "فيسبوك" إن التهديد الذي تواجهه اللغة ليس لعوامل ضعف داخلها "وإنما بسبب مستخدمي هذه اللغة"، لافتا في حديث مع "سبوتنيك"، إلى الفكر الذي يحكم المدارس الدولية الموجودة في العالم العربي، معتبرا أنها من بين المهددات للغة العربية، مشيرا إلى أن بعض هذه المدارس تهتم باللغات الأجنبية على حساب اللغة العربية، لافتا إلى أن المناهج العربية في بعض هذه المدارس بها أخطاء جسيمة في قواعد اللغة.
وقال حسام إن "مشكلة اللغة العربية ليست في صعوبتها أو الازدواجية اللغوية في مصر، وبعض الدول، لكن المشكلة الحقيقية في توقف الإنتاج باللغة العربية".
وأوضح مؤسس "اكتب صح" بأن "اللغة العربية كانت مهيمنة ومسيطرة في فترات كثيرة عندما كان لدينا اقتصاد قوي منتج بهذه اللغة؛ كالعلوم والفنون".
وتابع: "لو رجعنا إلى التاريخ ستجد أن الغرب مثلا كان يترجم شروحات العرب في علوم الطب، وهذا هو أصل المسألة فعندما توقف انتاجنا باللغة العربية وصلنا إلى الوضع الذي نشهده حاليا، لكن اللغة قوية جدا وتملك القدرة على التطور لكن لا أحد يعمل على ذلك".
وفي هذا السياق يرى الكاتب الصحفي والناقد الأدبي إيهاب الملاح أن القضية أوسع من فكرة تهديد اللغة العربية، وقال في حديث إلى "سبوتنيك" إن "القضية بالنسبة لي أوسع وأشمل من فكرة التهديد؛ اللغة العربية من أقدم اللغات الحية على وجه الأرض، وهي في المرتبة الرابعة أو الخامسة في عدد المتحدثين بها كلغة أولى أو ثانية، وهي مرتبة متقدمة جدا بين لغات العالم".
وأضاف: "القضية عندي قضية هوية وانتماء وحياة؛ قضية ثقافة وطريقة تفكير وبنية تعليمية. قضية إزالة لحاجز الكراهية الذي نجحت الأوضاع المتدنية والسلبيات المتراكمة في إقامته بين النشء الجديد ولغته؛ بين المتعلم واللغة التي هي وسيلته وغايته معًا؛ بين الواقع اللغوي والعصر الذي لم ندخله بعد، والذي سنظل نحن -أصحاب هذه اللغة- خارجه ما لم ترتبط نظرتنا إلى المشكلة بمشروع حضاري تنويري، يؤمن بالعلم وتطبيقاته وتجلياته المختلفة على مستوى الفكر والمنهج والرؤية المتكاملة التي تربط بين اللغة والنهضة الشاملة للمجتمع والحياة والإنسان".
ويرفض محمود عبد الرازق وصف اللغة العربية بـ"الجمود"، موضحا: "لأنها -منذ كانت- تستوعب ألفاظًا من اللغات الأخرى، فدخلَتها ألفاظ من المصرية القديمة (مثل قميص ويَمّ)، ومن الفارسية (مثل إستبرق)، كما دخلها مؤخَّرًا ألفاظ من الإنجليزية والفرنسية والتركية وغيرها. وهذا طبيعي في كل اللغات، فاللغات جميعًا يأخذ بعضها من بعض، ويموت بعض ألفاظها ويحيا بعضها، فما يُستعمل يعِش وما يُهجَر يمُت".
ويتفق مع هذ الرأي، حسام إبراهيم، إذ يؤكد على أن اللغة لا تعاني من الجمود وإنما علماء اللغة هم من يعانون الجمود"، مضيفا بأن هؤلاء العلماء توقفوا عن تطويرها، ودمجها في المجتمع.
ويرى حسام أن هناك خطوات عدة لحماية اللغة العربية، أهمها تطوير المناهج الدراسية، وتنقيتها من النصوص الجامدة التي تنفر الطالب، بينما اللغة العربية هي لغة البلاغة والجمال، مشيرا إلى ضرورة إعادة كتابة هذه المناهج بشكل عصري، ويضف حسام، كذلك نحن في حاجة إلى إعداد مدرس اللغة العربية كونه أداة نقل المعرفة، وتابع كذلك علينا إيجاد جدوى اقتصادية لدارس اللغة العربية، وأن يتم العمل على خلق آلية ليكونوا داخل المؤسسات الحكومية يراجعون المكاتبات التي يتم تداولها بها، وكذلك نواب البرلمان، خاصة وأن القوانين تكتب باللغة العربية.
وشدد حسام على أنه من بين حماية اللغة أن يتم الاهتمام بالإنتاج الأدبي والفني، كونه من أهم عوامل الحفاظ على اللغة وحمايتها، لافتا إلى أن "اللغة مكون أساسي في حياة الشعوب".
ويقول حسام إن الغرض الأساسي من صفحة "اكتب صح" هو "تبسيط علوم اللغة ومساعدة الناس على كتابة جملة عربية سلمية خالية من الأخطاء الإملائية والأسلوبية".
وأضاف: "بحكم عملي في مجال الصحافة كنت أرى كثير من الأخطاء التي يقع فيها صحفيون، وكنت أحزن لأن اللغة من المفترض أن تكون بالنسبة لهؤلاء فرض عين وليست أمر هامشي".
وتابع: "بدأت أشرح لمجموعة من الأصدقاء بعض القواعد، فاستجابوا بشكل كبير فأدركت أن الأزمة ليست في اللغة وإنما في طريقة توصيل المعلومة والشرح، لذلك قررت إنشاء صفحة على فيسبوك، اكتب عليها بطريقتي وأسلوبي مستخدما النكت والكوميكس، ولاحظت استجابة كبيرة فخلال يومين جذبت الصفحة 5000 آلاف متابع، وهو ما شجعني ودفعني لإنشاء موقع يحمل نفس الاسم".
وأما محمود عبد الرزاق فيقول إنه عندما فكر في إنشاء صفحة "نحو وصرف" كان هدفه "التقريب بين اللغة والواقع المعيش، من خلال الربط بينها وبين الأحداث الجارية والأنشطة التي يمارسها الناس ويتابعونها".
ويرى إيهاب الملاح أنه خلال السنوات الخمس الماضية، ولدت مبادرات "رائعة وملهمة"، واكتسبت مساحات انتشار واسعة في فضاءات التواصل الاجتماعي؛ مبادرات ابتغت بإخلاص وصدق رأب الصدع الحاصل في أداءاتنا اللغوية بشكل عام والتي وصلت إلى درجة مخيفة من التدني والهبوط والبعد عن الحد الأدنى من السلامة اللغوية، وبما يعني فقدان حيز ضخم من الفهم والإفهام والتفهيم بين المتواصلين بهذه اللغة "الجميلة" التي تعرضت لظلم بين وإهمال مخيف طوال عقود.
وتابع الملاح: كان مولد مبادرات مثل (صفحة "نحو وصرف"، و"اكتب صح") وغيرهما، ضمن مبادرات أخرى (أغلبها فردي أو يقوم على أقصى تقدير على جهود بضعة أفراد ودون أي مؤازرة أو دعم من المؤسسات الحكومية أو الرسمية)؛ يعني بالنسبة لي أن قضية اللغة العربية لا تزال تكتسب في كل يوم أنصارًا جددا يروعهم ما وصل إليه حال اللغة العربية علي الألسنة والأقلام، ويفزعهم هذا "التلوث اللغوي" بل "الانحطاط اللغوي" الذي يسود حياتنا الراهنة بدءًا من وضع هذه اللغة في المراحل التعليمية المختلفة؛ من الابتدائية إلى الجامعة، وشيوع المسميات الأجنبية التي يطلقها بناة المجتمع الجديد على المؤسسات والشركات والمحال والعمائر والفنادق والقرى السياحية وغيرها، وكأننا في بلد أجنبي، والعجز عن التعليم باللغة العربية في الكليات العلمية وشيوع الأخطاء الفادحة في كثير مما حولنا من مطبوع ومقروء، حتى لقد أصبح الخطأ أصلا وقاعدة، والصواب استثناء ومصادفة.