ينظر أبو هيثم بفخر إلى منشأته التراثية، وهي تستعيد شيئا من نشاطها الذي كانت عليه قبل سيطرة تنظيم "جبهة النصرة" وحلفائه على مساحات واسعة من غوطة دمشق.
بحرقة وحزن، يستذكر أبو هيثم في حديثه لـ سبوتنيك، مزرعة المشمش خاصته التي كانت تتربع في محيط مصنعه على كتف طريق مطار دمشق الدولي بمساحة تزيد عن 120 دونماً، وكيف تعرضت أشجارها ومرافقها الصناعية للحرق والتدمير الكامل على أيدي المجموعات الإرهابية في عام 2013.
بعد تطهير محيط طريق مطار دمشق الدولي من الإرهابيين، بدأ أبو هيثم بإعادة بناء منشأته: "نهاية 2014، بدأنا بتجديد زراعة أشجار المشمش وغرسنا /6000/ شجرة بدلا من تلك التي أحرقها الإرهابيون، وها هي -كما ترون- بدأت تثمر وتكبر يوماً بعد يوم، لتعود المزرعة أفضل مما كانت عليه قبل الحرب وبدأنا بعصر ثمارها مع كميات أخرى نشتريها من فلاحي بساتين الغوطة، لتصنيع القمردين السوري ذو المذاق المميز".
ورث أبو هيثم، وهو المزارع والصناعي السوري محمد بشار جاويش، صناعة "القمردين" الدمشقي عن آبائه، وبأكثر ما يمكن من اختصار، فالقمردين هو عصير المشمش أو شراب الرحيق كما يسمى في المطبخ العربي، ويستهلك عادة خلال شهر رمضان المبارك.
على الرغم من أنه ينتشر في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، إلا أن هذا القمردين السوري الذي ولد في غوطة دمشق في زمن غير معروف بدقة، يعد الأفضل بما لا يقاس مع أقرانه، ليس لأن المشمش (الكلابي) الذي تنتجه سوريا بشكل خاص هو الأكثر ملاءمة لصناعته، وإنما أيضا للمناخ الذي يناسب عمليات التجفيف الطبيعي بدءا من السطوع الشمسي إلى نسب الرطوبة وغير ذلك من الاشتراطات الخاصة بهذه الصناعة التراثية.
يضيف جاويش: مازلنا نحافظ على شجرة المشمش وعلى صناعة القمردين، فسوريا تشتهر بهذه الصناعة منذ آلاف السنين وهي تراث متوارث عبر أجيال متعاقبة، كانت تعتمد في الماضي على طرق وأدوات بدائية لكن سرعان ما تطورت في مراحل لاحقة لتصبح صناعة آلية في مرحلة التنظيف والتنقية والعصر وإضافة القَطر (السكر المذاب بالماء) ومادة الغليكوز ثم لتصبح يدوية في مرحلة التقطيع والتغليف".
ويتم إنتاج القمردين عبر غلي المشمش ومكونات أخرى على النار ثم يتم تصفيته خلال مصاف خشبية مغمورة بزيت الزيتون السوري، ليترك ليجف تحت أشعة الشمس المباشرة، فيكتسب نكهة فريدة، وبعد بضعة خطوات أخرى، يصبح منتجا جاهزا للتسويق يتم استخدامه لصنع شراب خاص بإضافة ماء الورد أو ماء زهر البرتقال، وقد يضاف إليه وقطع المشمش (الطازجة أو المجففة)، ويعد مصدرا جيدا للطاقة والأيونات والماء، وكلها مهمة للغاية بعد يوم من الصيام.
نكهة سورية خاصة
وأشار جاويش إلى أن إنتاج سوريا من مادة القمردين كان محدوداً جداً في السابق ولا يتجاوز 1000 طن سنوياً وفق تلك الطرق البدائية ومع إدخال آلات جديدة للتصنيع وصل حجم الإنتاج إلى عشرات آلاف الأطنان وبمواصفات وخصائص غذائية عالية المستوى مع تسجيل طلب متزايد على هذا المنتج السوري العريق".
وعن مراحل هذه الصناعة في منشأته قال جاويش: "بعد أن يقوم الفلاح بجمع محصول "المشمش الكلابي" (مشمش بذوره ذات طعم مر) ويأتي به إلى المعصرة، فتوضع الثمار في آلة خاصة لغسلها وتنقيتها من الشوائب والأوراق والأتربة ثم يجري تعقيمها، وبعد ذلك تنقل إلى حوض آخر لفصل البذور والقشور والألياف عنها، لتوضع في حوض كبير يتم فيه خلط العصير بمادتي القطر والغليكوز وزيت الزيتون البلدي، ثم يتم نقل الناتج إلى حوض آخر لإزالة الألياف للحصول على خواص العصير الصافي بنسبة 100%، ليتم بعدها ملء عربات صغيرة بالعصير الناتج وتفريغه في أحواض خشبية مدهونة بالزيت البلدي كي لا يلتصق المنتج بها بعد مرحلة التجفيف في الهواء الطلق وتحت أشعة الشمس مباشرةً، والتي تستمر لخمسة أيام يجري بعدها قلع وطوي القمردين ونقله إلى داخل المنشأة لتنظيفه مرة ثانية وتقطيعه وفق الأوزان المطلوبة (200 غرام- 400 غرام) وتغليفه ووضعه ضمن صناديق كرتونية، تمهيداً لنقله إلى الأسواق المحلية وتصديره إلى الأسواق الخارجية".
وعن الفارق الذي يتميز به التجفيف الطبيعي عن التجفيف الآلي قال: "عند استخدام الآلات الحديثة لتجفيف القمردين يفقد المنتج خواصه وطعمه ونكهته التي يتميز بها التجفيف تحت أشعة الشمس"، مضيفاً أن "هناك عدد من الصناعيين نقلوا هذه الصناعة الآلية إلى خارج سوريا لكن لازالت المنتجات السورية تفرض نفسها بقوة في الأسواق الخارجية من حيث اللون والفائدة وطرق التجفيف الطبيعي التي يوفرها مناخ سوريا المعتدل".
أبناء على طريق الآجداد
الشاب يوسف جاويش ابن صاحب المنشأة، قال لـ سبوتنيك: "توارثتُ صناعة القمردين عن والدي وجدي، لقد تأثرنا بالحرب طيلة السنوات العشر الماضية، لكننا عدنا مجدداً بعد عودة الأمان إلى منطقة المصنع".
وأضاف: "حالياً نسعى لمكننة هذه الصناعة لاسيما في مراحل التقطيع والتغليف والتوضيب ونأمل أن تعود جميع المنشآت الصناعية المتوقفة إلى سابق عهدها من العمل والإنتاج كما كانت عليه قبل الحرب".
البذور والقشور.. فوائد طبية واقتصادية
خالد سكافي وهو شريك جاويش في المزرعة ومنشأة القمردين، تحدث لـ سبوتنيك عن حجم الإنتاج السنوي كاشفاً عن فوائد اقتصادية وطبية لبذور المشمش، وقال: "وصل حجم الكميات المسوقة للمنشأة إلى 150 طناً من ثمار المشمش وتم تصنيع 70 طناً من مادة القمردين المعد للتصدير إلى الأسواق الخارجية".
ولفت سكافي إلى أن "بذور المشمش الناتجة عن عملية العصر يتم تجفيفها تحت أشعة الشمس لخمسة أيام ثم يجري جمعها وتعبئتها في أكياس لتباع إلى تجار كي يقوموا بتصدير القشور واللب كل على حدة" موضحاً أن "اللب يستخدم في صناعة الزيوت الطبية فيما تستخدم القشور المطحونة خلال حفر آبار النفط، وقال: يمكن أن ينتج عن 100 طن من المشمش حوالي 7 أطنان من البذور المجففة التي يمكن بيعها بمبلغ 1400 ليرة سورية (نحو دولار أمريكي واحد) للكيلو غرام الواحد".
المشمش أنقذ أم محمد وابنتيها
منشأة "القمردين" هذه التي بدأت باستعادة نشاطها في إحدى المهن التقليدية السورية، تؤمن فرص عمل لأكثر من 50 عاملاً وعاملة من الشباب والفتيات من قرى غوطة دمشق ولمعظم أيام السنة - بحسب صاحبها جاويش.
السيدة العاملة أم محمد، توفي زوجها منذ زمن طويل، وهي تعمل مع ابنتيها الصغيرتين في المزرعة كرئيسة لورشة "المد والقلع" التي تتلخص بصب العصير في الألواح الخشبية ثم فصل مادة القمردين عن الألواح الخشبية.
وأوضحت أم محمد لـ "سبوتنيك" أن مجموعتها تضم أكثر من 25 شاباً وفتاة يبدؤون العمل في المنشأة منذ الخامسة صباحاً خلال موسم قطاف المشمش ثم ينتقل الجميع إلى مرحلة التنكيش (التنظيف) والقص والسلفنة والتغليف والتوضيب في الصناديق الكرتونية .
وقالت: "هذا العمل في عدد من المنشآت في منطقة الغوطة الشرقية أمن لي ولابنتي دخلاً جيداً معظم أشهر السنة وحتى قبيل شهر رمضان الكريم".