حيث تشير الإحصاءات الجديدة التي أعلن عنها المعهد الوطني للإحصاء في تونس (مؤسسة عمومية) إلى انكماش الاقتصاد الوطني بنسبة 21.6% خلال الثلاثي الثاني من العام الجاري باحتساب الانزلاق السنوي، وبنسبة 20.4% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية، مسجلا بذلك أعلى تراجع له منذ العام 1997.
كما كشفت إحصاءات المعهد، أن إيرادات قطاع السياحة قد تراجعت بأكثر من 50% خلال الستة أشهر الأولى من العام الجاري مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي، بسبب الحجر الصحي وتوقف حركة التنقل في بين الدول توقيا من فيروس كورونا، وهو ما أضر بالسياحة التونسية التي تسهم بـ10% من الناتج المحلي الإجمالي وتعتبر مصدرا رئيسيا لجلب العملة الصعبة لتونس.
وقال معهد الإحصاء في بيان له إن نسبة البطالة ارتفعت من 15% إلى 18%، وهو المعدل الأعلى الذي تسجله تونس منذ ثورة 2011، وأشار إلى أن البلاد خسرت ما يفوق 161 ألف موطن شغل خلال الثلاثي الثاني من سنة 2020، من بينها 52.7 ألف وظيفة في قطاع الخدمات، و51.9 ألف في قطاع الصناعات المعملية، و46.8 ألف في قطاع البناء.
أرقام مفزعة
وقالت الخبيرة في الشأن الاقتصادي جنات بن عبد الله لـ "سبوتنيك"، إن الانكماش غير المسبوق الذي سجله الاقتصاد الوطني خلال الثلاثي الثاني من العام الجاري يعني بالضرورة "تدمير الثروة الوطنية التي يترجمها الناتج المحلي الإجمالي والذي شهد تراجعا بنسبة 11.9% خلال السداسي الأول من هذه السنة".
وتابعت أن "تونس دخلت اليوم مرحلة غير مسبوقة بانتقالها من مرحلة خلق الثروة وبنائها إلى مرحلة التدمير"، مضيفة أن تآكل الناتج المحلي سيترجم واقعيا بفقدان مواطن الشغل.
وبينت بن عبد الله أن "هذه الأرقام المفزعة تعكس خطورة الوضع الاقتصادي الذي بلغته البلاد، في ظل تداعيات أزمة كورونا التي كشفت المستور وعرت حقيقة الخيارات الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية الفاشلة التي تبنتها مختلف الحكومات المتعاقبة بعد الثورة".
وأكدت الخبيرة أن الوضع الصحي ليس السبب الوحيد الذي يقف وراء تدهور الاقتصاد الوطني، على اعتبار أن الوضع الاقتصادي الهش الذي تعيشه البلاد سابق للجائحة.
وأضافت الخبيرة في الشأن الاقتصادي أن "التجاذبات السياسية التي عاشتها تونس منذ الثورة إلى اليوم كشفت بكل أسف عن عدم فهم الأحزاب السياسية لطبيعة الوضع الاقتصادي الذي أصبح يهدد الأمن القومي".
وتابعت أن أغلب الأحزاب السياسية وخاصة تلك التي شاركت في الحكم برهنت على تهميشها للملف الاقتصادي لفائدة الملف السياسي، معتبرة أن التجاذبات السياسية ساهمت في خسارة عشر سنوات من حياة الاقتصاد الوطني ومن حياة المواطن التونسي.
حكومة التكنوقراط ليست الحل
وعن الحكومة المرتقبة التي يقودها هشام المشيشي، قالت بن عبد الله "لا أعتقد أن الحكومة الجديدة ستكون في مستوى المسؤولية الاقتصادية، بالنظر إلى طبيعة تكوين رئيسها الذي يحظى بتكوين إداري ولا خبرة له في إدارة الدولة وفي حل الملفات الاقتصادية والاجتماعية الحارقة، في حين أن الصفة الأساسية التي يجب أن يتمتع بها رئيس الحكومة هي القدرة على التحكيم والخبرة الواسعة والتجربة والتمكن من آليات التحليل والتشخيص التي تتيح له لاحقا حسن الاختيار".
وأضافت، أن الحديث عن حكومة كفاءات وطنية مستقلة لا معنى له، وأن تونس في حاجة إلى مسؤولين حكوميين لهم الرؤية الواسعة والشاملة التي تأخذ بعين الاعتبار المستجدات المحلية والاقليمية والعالمية، معتبرة أن حكومة التكنوقراط ستكون عاجزة عن وضع الملف الاقتصادي في مربعه الحقيقي.
الحل في الفلاحة
وترى بن عبد الله، أن هامش التحرك الوحيد المطروح أمام الحكومة القادمة للخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة هو الاستثمار في الفلاحة، باعتبارها القطاع الوحيد الذي أفلت من كماشة الانكماش الاقتصادي بعد تسجيله نموا ايجابيا بـ 3.6 بالمائة، وبالنظر كذلك لكونه قطاعا مشغلا ومصدرا.
واستدركت "لكن نتائج هذا القطاع لن تكون مضمونة بالنسبة للثلاثي الثالث والرابع من السنة الجارية، لأن هذا القطاع لم يحظَ باهتمام أو باجراءات تفاضلية وتحفيزية طوال العقود الأربعة الماضية على غرار القطاع السياحي وبقية القطاعات الأخرى".
وتابعت "إذا واصلت الحكومة القادمة في تجاهل هذا القطاع فإن باب الإنقاذ سيكون موصدا، باعتبار أن التحكم في الوضع الحالي سيصبح صعبا لأن تونس تعيش على وقع موجة ثانية من جائحة كورونا، وبالتالي لا يمكن التعويل مستقبلا على قطاع الخدمات الذي سيتباطأ تعافيه، وكذلك الأمر بالنسبة لقطاع الصناعات المعملية الذي سيبقى مرتبطا بالسوق الأوروبية".
وانتقدت بن عبد الله مواصلة البنك المركزي في تبني سياسة تقشفية من خلال تجاهل مسألة النمو والتشغيل والإبقاء على نسبة الفائدة المديرية في مستواها الحالي الذي يعد مرتفعا مقارنة مع نسبة الفائدة المعتمدة على المستوى الاقليمي والعالمي، في حين أن كل محركات النمو من استثمار وتصدير معطلة.
غياب التخطيط
من جانبه، أكد الخبير في الشأن الاقتصادي والنائب السابق بالمجلس الوطني التأسيسي المنصف شيخ روحو في حديثه لـ "سبوتنيك"، أن الأرقام التي أعلن عنها المعهد الوطني للإحصاء متوقعة وسبق أن نبه الخبراء سواء في البنك المركزي أو المعاهد التونسية من خطورتها.
وأضاف أن جائحة كورونا ليست السبب الرئيسي وراء هذه الأزمة، على اعتبار أن جل دول العالم عايشت نفس الوضع الصحي وبحدة أكبر من تونس، مشيرا إلى أن البلاد تحصد اليوم ضريبة التراكمات الاقتصادية والاجتماعية السابقة.
واعتبر شيخ روحو أن المسؤولية الأولى تقع على عاتق المسؤولين في الدولة الذين لا يستبقون الوقائع ولا يضعون مخططات دقيقة توضّح رؤيتهم للتنمية خلال العهدة المنوطة بهم.
وأضاف، أنه على الحكومة القادمة أن تستعيض من سابقاتها وأن تحدد برنامجا واضحا لتحقيق النمو الاقتصادي وخلق الثروة الوطنية، مبينا أن على هذا البرنامج أن يجيب على سؤالين اثنين يمثلان عقدا معنويا بين الحكومة والشعب هما "كم نسبة النمو التي ستحققها الحكومة وما مقدار الثروة الوطنية التي ستخلقها؟".
ونبه شيخ روحو من أن عدم خلق الثروة الوطنية الكافية سيؤدي إلى عجز ميزان الدفوعات الذي سيجبر تونس على التداين، مشددا أن الديون المتراكمة تمثل منفذا لتهديد الاستقلال الاقتصادي للبلاد.
وفي هذا الصدد، انتقد شيخ روحو تراجع ترتيب تونس ضمن الدول المصدرة للفسفاط (الفوسفات) بعد أن كانت رابع أكبر منتج لهذه المادة في العالم سنة 2010 بإنتاج يفوق 8.2 مليون طن سنويا، مقابل تقدم المغرب الذي أصبح أكبر مصدر للفسفاط في العالم بإنتاج يقدر بـ 40 مليون طن سنويا. واعتبر أن الحكومات المتعاقبة تتحمل مسؤولية تراجع مرابيح ثروات البلاد، قائلا إن "لعب الكراسي (السلطة) لا يجب أن يطغى على المسؤوليات".