ويعود الملف إلى شهر يونيو المنقضي، حيث قامت شركة تونسية مصدره بإدخال 72 حاوية نفايات إلى ميناء محافظة سوسة الساحلية وتخزينها في مقرها بمنطقة الوردانين (سوسة) في إطار عقد يجمعها بشركة إيطالية مختصة في مجال التصرف في النفايات ليتبين لاحقا أن الحاويات تتضمن نفايات مصنفة خطرة ويمنع إدخالها إلى أفريقيا، وليست نفايات صناعية كما صرحت به الشركة.
إهانة للدولة التونسية
واعتبر رئيس لجنة الإصلاح الإداري والحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد ومراقبة التصرف في المال العام بالبرلمان بدر الدين القمودي في تصريح لـ "سبوتنيك" أن هذه القضية تتضمن إهانة كبرى لتونس، التي تحولت إلى مقبرة للنفايات الأوروبية وهي التي تعاني أصلا من أزمة في التصرف في نفاياتها.
وأكد القمودي أن هذه النفايات الإيطالية هي نفايات منزلية مرسكلة وليست نفايات صناعية، مضيفا أن التحاليل المخبرية أثبتت أنها تمثل خطرا على البيئة وعلى صحة الإنسان وبقية الكائنات الحية، نظرا لاحتوائها على مواد مصنفة خطرة مثل الزئبق والزنك.
وبين النائب أن هذا الملف هو محل متابعة من عدة جهات، أولها لجنة الإصلاح الإداري بالبرلمان التي باشرت التحقيق في هذه القضية، وثانيها الهيئة الرقابية التي كلفها رئيس الحكومة بتولي مهمة التثبت من أجل تحديد الاخلالات والمسؤوليات، مؤكدا أنه تم فتح تحقيق قضائي في الغرض للكشف عن ملابسات القضية.
تورط الجمارك
وقال القمودي "ما كانت هذه الجريمة لتقع لولا تواطؤ بعض الأطراف من المؤسسات سواء كانت من جانب موظفي وزارة البيئة أو من جانب الديوانة (الجمارك)".
وأضاف أنه رغم إصرار الجمارك التونسية على التنصل من مسؤوليتها، إلا أن عديد المعطيات تشير إلى ضلوعها في هذه القضية، بالنظر إلى مخالفتها للقوانين الوطنية والدولية المعمول بها والتي تمنع دخول مثل هذه المواد إلى تونس.
وتابع أن "الشركة التونسية المتورطة في إدخال النفايات الإيطالية إلى تونس كانت في نزاع سابق مع الجمارك ولم يتم تسوية وضعيتها القانونية، ومع ذلك سمح لها باستئناف نشاطها، فضلا عن تمكينها من رخصة القيام بأعمال الرسكلة رغم عدم احتواء مقرها على التجهيزات الضرورية لممارسة هذا النشاط.
وأكد القمودي أن أعوان الجمارك شاركوا في المعاينة الأولى للحاويات التي تبين نتائج التحاليل أن 97% من مكوناتها تحوي مواد بلاستيكية مصنعة والحال أن هذه النتائج تتضمن مغالطة كبرى.
الجمارك تنفي الاتهامات
في المقابل تنفى الإدارة العامة للديوانة الاتهامات الموجهة إلى الجمارك، مؤكدة أن منظوريها قاموا بواجبهم في الكشف عن حيثيات هذا الملف وإتباع الإجراءات التي ينص عليها القانون الجمركي.
وقال الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للديوانة العميد هيثم الزناد لسبوتنيك "لولا الجمارك التونسية لما تفطن أحد إلى هذا الملف الذي حيكت خيوطه منذ بدايته بطريقة ذكية جدا يصعب من خلالها على السلطات التونسية التفطن للاخلالات التي تضمنتها عملية إدخال النفايات الإيطالية إلى تونس".
وبيّن أن المصالح الجمركية منحت رخصة تخزين النفايات التي صرحت الشركة بكونها صناعية بعد أن تولت هذه الشركة تسوية وضعيتها القانونية وحل نزاعها السابق مع الجمارك.
وأفاد أن الجمارك طلبت من الشركة المصدرة الاستظهار بترخيص من المصالح المختصة في وزارة البيئة لمعرفة طبيعة النفايات والتأكد من كونها لا تشكل خطورة، مضيفا أن نتائج التحاليل التي قامت بها الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التابعة لوزارة البيئة أثبتت أن هذه النفايات البلاستيكية لا تعتبر خطيرة ولا يمنع دخولها إلى تونس، وعلى ضوء ذلك أذنت الجمارك برفع اليد عن الحاويات وتم نقلها الى مقر الشركة في محافظة سوسة.
وقال الزناد أنه بتاريخ 24 يونيو المنقضي، تولى عون مختص من الجمارك معاينة النفايات المنقولة إلى مقر الشركة كما ينص على ذلك القانون الجمركي، ليتبين أن هذه الفضلات تتكون من 70 بالمائة من المواد البلاستيكية و30 بالمائة مواد أخرى، منافية لما تم التصريح به.
وأكد أن الإدارة العامة للجمارك قررت منع صاحب المحل من التصرف في الـ 70 حاوية وكذلك التصرف في الـ 212 حاوية الجديدة التي وصلت لاحقا إلى تونس حاملة نفس المواد، كما طلبت من الشركة إعادة تصديرها إلى إيطاليا نظرا للتكلفة الباهظة التي يتكبدها الجانب التونسي لدى ابقائها في الميناء.
ولفت الزناد أن الجمارك تعرضت إلى ضغوطات من عدة أطراف، بالنظر إلى وجود تحقيق سابق يفيد بأن النفايات غير خطرة، بالإضافة إلى رفع صاحب الشركة قضايا ضد الديوانة لرفع اليد عن هذه النفايات، والضغط الذي قامت به الشركة الإيطالية التي تواصلت مع قنصل نابولي لتبيان أسباب إيقاف النشاط.
وأكد الناطق الرسمي باسم الجمارك أن تقرير اللجنة العليا للتعريفة، التي تضم ممثلين من وزارة المالية والديوانة والتجارة هو الذي حسم في الموضوع، بعد أن أثبتت نتائجه أن النفايات ليست صناعية وإنما بلدية مجمعة، خلافا لما تم التصريح به، مضيفا أن التحقيق بين أن هذه النفايات يمنع منعا باتا تصديرها من أوروبا في اتجاه الدول الإفريقية.
ويسمح هذا العقد للشركة التونسية باستقبال 120 ألف طن من النفايات سنويا بقيمة 18 دينارا للطن الواحد والتصرف فيها في المصبات التونسية قصد القيام برسكلتها وإعادة إنتاجها في شكل حبيبات بلاستيكية ثم تصديرها.
تهاون في التعامل مع الجرائم البيئية
وخلفت قضية النفايات الإيطالية موجة سخط واسعة في الأوساط الحقوقية، حيث طالبت جمعيات ومنظمات حقوقية بفتح ملف الجرائم البيئية المتنامية وتسليط العقوبات ضد كل من ستكشف عنه التحقيقات الجارية، رافضين تحويل تونس إلى مصب لنفايات الدول الأوروبية.
وطالب المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر في حديثه لـ "سبوتنيك"، بضرورة التعامل بأكثر جدية مع هذه الجرائم البيئية وعدم تكريس سياسة الإفلات من العقاب.
وأشار بن عمر إلى وجود "منحى خطير في اتجاه الاستثمار نحو مراكمة الربح على حساب الحقوق الأساسية للمواطنين التونسيين بما فيها الحق في البيئة".
ولفت إلى أن أزمة النفايات الإيطالية تعكس فشل المنظومة القانونية التونسية القائمة التي تستند إلى إجراءات بيروقراطية يسهل من خلالها الافلات من الرقابة، مضيفا أن هذه الأزمة كشفت أيضا عن حجم الفساد المتفشي داخل أروقة الإدارة التونسية وسعي كل جهاز إداري للتملص من المسؤولية باستغلال هذه الثغرات التنظيمية وعدم التنسيق الكافي بين مختلف أجهزة الإدارة التونسية سواء الإدارية أو الأمنية أو البيئية.
وقال بن عمر "المطلوب اليوم ليس فقط ىامتصاص غضب الرأي العام بإقالة المدير العام للوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، وإنما المتابعة الفعلية لكل المتورطين في الجرائم البيئية، وسد الثغرات القانونية والتشريعية التي تمكن الشركات الصناعية من ابتزاز الدولة التونسية تحت مسمى الاستثمار والضغط عليها من خلال التهديد بوقف النشاط والتسبب في أزمة اجتماعية".