تركيا تتغلغل في البلقان بصمت وتهدد أبواب روسيا في المنطقة

تسعى أنقرة بسياستها الخارجية إلى توسيع رقعة تأثيرها السياسي من خلال استخدام العامل العرقي الذي يجمع الكثير من شعوب المنطقة المجاورة وصولا إلى العامل الديني المذهبي الذي بات وسيلة تركية هامة للتوسع الجغرافي السياسي وهذا لا يعد سرا خصوصا مع التواجد التركي في كل من سوريا وليبيا وقطر والسودان وجيبوتي والصومال واليمن.
Sputnik

لم تقف محاولات أردوغان عند هذه الدول فحسب، بل يمتد حلم "خليفة" المسلمين، كما يحب أن يلقبه الكثيرين، إلى إعادة أمجاد السلطنة العثمانية التي بحسب زعمه يجب أن تعود لتركيا الوريثة الشرعية للدولة العثمانية، وتجلى ذلك عبر الطموحات التوسعية عبر إعادة السيطرة على على مناطق النفوذ العثماني القديم في المغرب العربي وبلاد الشام.

كما تحاول تركيا عبر مخططات وأدوات أخرى (مالية – ثقافية) التوسع في البلقان والمناطق المجاورة الأقل تأثيرا لها والتي كانت بمثابة المشكلة التاريخية لها نظرا للحروب الكثيرة التي خاضتها السلطنة العثمانية هناك وكانت بمثابة نقطة التحول التاريخية في مصير انهيار الدولة العثمانية التي ساهمت بتفككها مستقبلا.

تركيا تتغلغل في البلقان بصمت وتهدد أبواب روسيا في المنطقة

بوابات روسية في البلقان

استطاعت روسيا على مرالعصور اكتساب شعبية كبيرة في الأوساط البلقانية، وأبرزها بسبب الديانة "الأرثوذكسية" (بلغار، صرب، يونان ورومان) هذه المنطقة الذين كانوا ينتظرون منها المساعدة للتخلص من السيطرة العثمانية.

كما تعتبر موسكو تاريخيا منطقة البلقان مفتاح أمنها، وهي بالتالي تضمن لها مخرجا يوصلها إلى المياه الدافئة، ومجالا حيويا لضواحيها الجنوبية في حال قيام أي اعتداء خارجي.

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفكك الدول في المنطقة شهدت السياسة الروسية خفوتا ملحوظا لا سيما بعد الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أدخلت البلاد في تراجع سياسي واقتصادي وعسكري قياسي وباتت خلاله واشنطن القوة العسكرية والسياسية الوحيدة في العالم.

وكان لهذه التحولات نتائج ارتدت على سياسة روسيا في البلقان حيث خسرت موسكو الكثير من نفوذها في المنطقة ولم تستطع حتى يومنا هذا إعادة التأثيروتمكينه بالرغم من وجود أرضية مناسبة لذلك.

غاغاوزيا.. بداية حلم العثماني في البلقان

غاغاوزيا جمهورية مستقلة تتميز بحكم ذاتي وهي تقع ضمن دولة مولدوفا حصلت على استقلالها بعد حرب داخلية طويلة في تسعينات القرن الماضي وساهمت روسيا بإيقاف الحرب فيها عبر التدخل العسكري وإعطائها مع مقاطعة ترانسنيستريا استقلالا ذاتيا لكنه بقي غير معترف به دوليا.

الجمهورية الواقعة حصلت  قرب الحدود الجنوبية لأوكرانيا يعيش فيها قوميات مختلفة أبرزها الأغوز والمولداف والبلغار، بالإضافة إلى الرومان. ما يلفت الأنظار خلال السنوات الأخيرة كانت التحركات التركية في تلك المنطقة بالتحديد حيث تسعى أنقرة عبر نشاطها ومساعداتها المختلفة التأثير ولعب دور فيها.

وبحسب مصادر خاصة، نجحت أنقرة من فتح العديد من المراكز الثقافية التركية والمساجد في مختلف مناطق جمهورية غاغاوزيا، بالإضافة إلى مشاريع مالية بمبلغ 35 مليون دولار قدمتها للاستثمار، ومخطط مستقبلي بفتح قنصلية تركية فخرية هناك، دليل إضافي على النوايا التركية في المنطقة.

يقول الخبير الروسي بشؤون البلقان خلال زيارته الأخيرة إلى المنطقة أن التمدد التركي يأتي على حساب الغياب الروسي حيث انحسرت أبواب روسيا في البلقان وباتت قليلة، بالإضافة إلى الغياب الفعلي والثقافي في منطقة مازال أجددها يتكلمون الروسية، لكن ذلك ليس كافيا خصوصا أن النخب السياسية والمالية والشباب في جمهوريتي غاغوزيا وترانسنيستريا ينظرون إلى الغرب وتركيا مؤخرا كمخلص وليس موسكو.

تركيا تتغلغل في البلقان بصمت وتهدد أبواب روسيا في المنطقة

يعتبر الخبير الروسي أن غاغاوزيا باتت منطقة غمرتها موجة تركية، فالجمهورية التي أجرت استفتاءا للانضمام إلى الاتحاد الأوراسي في عهد ميخائيل فورموزال عام 2014 باتت بحكم الواقع اليوم جيبا لتركيا تبني فيه أنقرة طريقا استراتيجيا وحيدا للربط المنطقة بمرفأ تشيرنو الواقع على البحر الأسود.

كما استطاعت تركيا من إقناع الجمهورية ورئيستها إيرينا فلاه على تسليم كل السلطات للدولة المولدوفية الرسمية مقابل السفر بانتظام وبشكل دوري لزيارة أردوغان والحصول على الدعم التركي اللازم في مختلف المجالات، وهذا ما يعد تقدما تركيا على حساب الغياب الروسي.

ويعلل الخبير التدخل التركي قائلا: "منظمات تركية بأهداف معروفة توفر اليوم لجامعة كومرات الوحيدة المتخصصة باللغة الروسية في تلك المنطقة خبراء وعلماء ومدرسين أتراك يساهمون بتغيير مناهج التدريس إلى مناهج "تركية" لتثقيف وخلق شباب وأجيال مقربة لأنقرة وسياساتها.

أما موسكو التي تناست دورها الأساسي في المنطقة تقوم بأقل ما يمكن بتوفير منح دراسية لسكان هذه المنطقة مطبقة سياسة الاتحاد السوفياتي السابقة بتدريس الطلاب ومنحهم العلم والخبرات، لكن مع التغييرات الدولية والايديولوجية باتت النظرية الروسية بحاجة إلى تجديد وتغيير خصوصا أن الخبرات القادمة في معظم الأحيان تبقى في روسيا ولا تعود إلى موطنها حيث فرص تحقيق الذات أقل بكثير بسبب ضعف الدول ومقدراتها.

هذا الأمر يخلق فراغا كبيرا في دول بحاجة ماسة لقامات وخبراء درسوا في روسيا لنقل العلم والثقافة لشعوبها في المنطقة لا العكس الحاصل فعليا حيث باتت أنقرة تسيطر على المشهد أكثر بكثير ومعها تخسر موسكو ما جنته خلال القرون الماضية وهذا تحديدا ما تهدف إليه تركيا وهو إفراغ المنطقة السوفياتية السابقة في البلقان من التأثير الروسي التاريخي.

المقال يعبرعن رأي كاتبه

مناقشة