بعد أربعين عاماً، ولظروف صحية، اعتزل دالاتي عمله كمهندس بحري جال على أغلب السفن السورية العامة والخاصة، لكن عشقه للبحر وللسنين الطويلة التي قضاها بصحبته، دفعه ليجلب البحر إليه ويصنع عالمه السحري على طريقته بأدواته الخشبية البسيطة التي صنع منها مصغرات سفن خشبية تحاكي السفن الحقيقية بشغف من خًبِر البحر وتعمّق بصناعة السفن التي كانت بيته وعالمه الصغير الكبير لسنين طويلة.
بين عامي 1976 عندما بدأ عمله البحري، و2016 حين اعتزله، حكاية طويلة من العمل والشغف يرويها دالاتي لـ "سبوتنيك": عملت ككبير مهندسين تقنيين على متن سفن أجنبية وعربية عدة، وقد تدرجت لأنال هذا اللقب وفقاً لشهادات من كانوا قبلي وأخبر مني بأمور المهنة وأسرارها، ويضيف
أربعون عاماً تعلمت خلالها أن أعمل بكل شيء وفق تسلسل مراحل.
ويبين دالاتي أن المرحلة الأولى تتمثل بالتصميم الهندسي لشكل السفينة وقراءته للمخطط الهندسي، لتبدأ المرحلة الثانية من تشكيل العمل وهي وضع جسم الباخرة أو العامود الفقري، ليقوم بعدها بتركيب الجوانب التي تسمى (البوردل)، مع مراعاة اختلاف بعض البواخر عن بعضها البعض، فهناك بواخر تجارية للنقل والحاويات، وسفن شراعية.
ويضيف دالاتي: كل ما اكتسبه طيلة السنوات الماضية من خبرة بالعمل البحري سخّرته في صناعة مجسمات السفن، وأحاول أن أنجز عملي بكل دقة وصبر، ولو طالت مدة التحضير للعمل وصناعته، مبيناً أن بعض الأعمال تستغرق مدة 10 أشهر وعام أحياناً، فبعض الأخشاب محفورة يدوياً وهذا فخر لي، وليس جنوناً كما يصفه البعض.
ويقول دالاتي: في صباح كل يوم أدخل إلى محلي واغلق الباب ورائي، لأخلو الى سفني التي تنوعت بين الحربي والشراعي، بين مجسمات صغيرة وكبيرة، بين ماضي جميل وحاضر معتق برائحة الذكريات لأجمل سنوات العمر.
عالمه البحري الذي راهن أنه يستطيع أن يتفرد بهندسته بأدواته البسيطة، أراده أن يبقى بعيداً عن أعين المارة وألسنة المنتقدين الذين أساؤوا لحلمه وعالمه عندما وصفه البعض بأنه مجرد نجار يضيع وقته بقطع خشبية لا فائدة منها.
بقطع خشبية بسيطة ومنشار ومطرقة و(بينسة) وأدوات لاصقة وبراغي ناعمة ومرابط غير ثابتة وخيوط وقصبات صغيرة، يحوّل دالاتي نماذج أشهر السفن في العالم الى مصغرات تحاكي الحقيقة من حيث الأبعاد والمقاييس والحجم، مدللاً لصناعته مجسماً مصغراً صنع عن سفينة "تايتانيك"، وعن سفينة "واحة البحار" التي صنعها ووصفها بأنها عمل فريد من ناحية التصميم والإبداع والتميز في دقة التصميم وتناسب الأحجام.
وأوضح دالاتي أن مجسمات السفن التي يصنعها قابلة للعوم في المياه مستفيداً من كل التفاصيل الصغيرة والكبيرة الموجودة على متن السفن، شارحاً أنه يمكن للناظر أن يرى بسهولة ما يوجد داخل الطوابق من ديكورات داخلية وأسرة وأشخاص وصالات عرض وترفيه ومطاعم وذلك من خلال تصميم الطابق الواحد ليكون بارتفاع 5/2 سنتيمتر، بالاضافة لانارتها لإعطاءها رونقاً جمالياً وحياة.
"اعتزال العمل في البحر كان أصعب قرار اتخذته في حياتي"، ويضيف بغصة: في عام 2016 أجريت عملية قلب مفتوح، ولعلمي أنني لن أستطيع بعد العملية أن أعمل بكل قوتي وطاقتي كما في السابق، قررت التوقف عن العمل، لأنني اعتبر أن أي تقصير في عملي بمثابة خيانة لكل عشرة السنين الطويلة التي قضيتها في البحر وعلى متن السفن التي كانت عالمي، ولا تزال تسكنني حتى اليوم.
ويضيف دالاتي: لا أعمل بقصد التجارة، وإنما للمتعة وتفريغ ما في داخلي من حنين للبحر وللذكريات الطويلة التي لا تزال حاضرة في بالي واسترجعها وكأنني أعيشها مجدداً وأنا أصنع كل جزء في مجسم السفينة.
ويكمل دالاتي: لدي أكثر من أربعين عملاً موجود لدى أصدقائي حول العالم، وكان أكثر ما يسعدني ما نقله لي أصدقائي عن انبهار كل من رأى المجسمات التي كانت مصنوعة بحب قبل أن تكون مصنوعة من الخشب وأدوات أخرى، وهذا فخر لي.
من يرى دالاتي وهو يقضي الساعات في نحت قطعة خشبية صغيرة بصبر ودقة، يدرك مدى الشغف الذي يسكن مخيلته ويجعله يطبع مشاهداته العتيقة على مجسمات السفن التي علق ذكرياته على متنها وتركها تبحر في العالم الذي اراد تفصيله على مقاس حنينه للبحر الذي لم يطوَ بقرار اعتزال العمل.