من يعرف كازاخستان ومن سمع بها؟ كثيرون تعرفوا عليها مع بداية العام الجديد فتحوا خريطة "غوغل" ورأوا هذه الدولة وموقعها الجغرافي، أما آخرون ظنوا أنها مجرد جمهورية تدخل ضمن الجمهوريات الاتحادية في روسيا، ولكي تكتمل الصورة وتصبح واضحة ربط البعض اسم هذه الدولة بأخبار سوريا ومؤتمرات محادثات السلام التي تدور في الأعوام الأخيرة في مدينة أستانا الكازاخستانية التي ذاع صيتها.
ما يميز كازاخستان عن غيرها من الدول أنها هادئة وعم فيها الاستقرار لأكثر من 30 عاما مقارنة بدول الاتحاد السوفياتي السابق والدول الآسيوية المجاورة، لكن ذلك لم يخل من بعض الأحدث، حيث حاولت كازاخستان إبراز نفسها دولياً من خلال تغيير العاصمة ونقلها من مدينة إلى أخرى عام 1994 واستمرت المفاجآت وكانت آخرها تغيير اسم العاصمة من أستانا إلى نور سلطان تكريما لرئيسها السابق نور سلطان نزارباييف على "إنجازاته" غير المسبوقة لشعبه.
أوهام تدمرها التقارير والأرقام
خرجت خلال السنوات الأخيرة آلاف التقارير التي تتحدث عن انفتاح كازاخستان والتغيرات التي حصلت فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وخروجها من الإرث التقليدي وتأثير موسكو، حيث ظهرت وكأنها ساحة وموطئ قدم لتأثيرات سياسية ودينية جديدة من خلال تركيا وبعض الدول الخليجية وصولا إلى دور الصين والدول الغربية والولايات المتحدة من خلال الجمعيات غير الحكومية الناشطة في البلاد.
سعت كازاخستان لإبراز نفسها كدولة متطورة وحديثة نهضت باقتصادها عبر مواردها المعدنية وثرواتها الطبيعية ومن بينها النفط الذي يشكل احتياطيها 3% من احتياطيات النفط العالمي، فضلا عن الفحم والغاز. كما حاولت كازاخستان لعب دور بارز من خلال تحويل عاصمة البلاد إلى ساحة دولية رائدة بالأعمال التجارية ومسرحا للتفاهمات السياسية وأبرزها "مفاوضات أستانا" بشأن سوريا.
رؤية كازاخستان 2050
تعتبر رؤية كازاخستان 2050 أحد أهم أولويات الرئيس المستقيل الذي حدد الملامح الرئيسية والمهام المحددة لطريق كازاخستان نحو الانضمام إلى عداد الرواد الـ30 للتنمية العالمية.
وتقتضي "استراتيجية — 2050" تطوير حوار واسع وتعاون متبادل المنفعة مع جميع البلدان المهتمة في الصداقة مع كازاخستان، ويتعلق ذلك في المقام الأول بقضايا التعاون في مجال الاستثمار وتبادل التكنولوجيا والاستيراد إلى كازاخستان الابتكارات والخبرة وتوسيع صادرات المنتجات الكازاخية.
ووفقا للاستراتيجية تسرع كازاخستان في الانتقال إلى "الاقتصاد الأخضر"، فبحلول عام 2050 حوالي 50% من إجمالي استهلاك الطاقة في البلاد يجب أن يقع على مصادر الطاقة البديلة والمتجددة.
لكن الأرقام والمعطيات على مدى السنوات القليلة الماضية تكشف الصورة المعاكسة لكازاخستان حيث زاد مستوى الفقر في البلاد وذلك على خلفية التضخم بسعر صرف العملة المحلية "التنغي" (7.5% في عام 2020)، ما انعكس على رواتب وأجور الموظفين من جهة وعلى أسعار السلع والمنتجات والنفط والغاز ما نتج عن أزمات اجتماعية في البلاد.
الوضع في كازاخستان - احتجاجات وأعمال شغب في مدينة ألماتي، 6 يناير 2022
© AFP 2023 / Alexander Bogdanov
صراعات داخلية
شاءت الأقدار أن يكون نموذج الحكم في كازاخستان مشابها لنماذج الحكم في جمهوريات آسيا الوسطى المجاورة قيرغيزستان وأوزبكستان وغيرها، حيث تسلم الحكم فيها عضو المكتب السياسي السابق في الحزب الشيوعي السوفياتي، نور سلطان نزارباييف، وبقي لأكثر من 25 سنة استطاع خلالها السيطرة على كل مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية والتجارية، وتمكنت عائلته من السيطرة على كل الشركات النفطية والاستثمارات الكبيرة في البلاد.
كما استطاع نزارباييف خلال حكمه وضع مسار جيوسياسي متزن ودقيق، بقي صديقاً وفياً لموسكو من جهة ومد يد العون والتعاون مع الدول الغربية وشركات الطاقة، الذين بدورهم ساهموا بغض النظر عن "الديمقراطية" والفساد في البلاد مقابل الحصول على عقود واتفاقات مربحة لصالحهم.
أما عن محيطه، كشفت وسائل إعلام غربية في تقاريرها أن بنات نزارباييف شغلن مناصب مهمة في الدولة بينها منصب رئيسة مجلس الشيوخ في البرلمان الكازاخستاني، ثاني أقوى المناصب في البلاد وأخرى تسيطر على أكبر الإمبراطوريات التجارية في البلاد.
ومع اقتراب أفول عهد نزارباييف حاول الأخير تسليم السلطة لأحد المقربين منه وكانت من نصيب قاسم جومارت توكاييف عام 2019، الدبلوماسي الهادئ والرصين، الذي قضى نصف عمره في موسكو حاول جاهدا الإبقاء على سياسة خلفه، لكن رؤيته المختلفة دفعت الأمور والعلاقات مع الرعيل القديم إلى الصدام، وتجلى ذلك من خلال اتخاذه لقرارات سياسية واقتصادية عدة كشفت انحرافه عن نهج سلفه السابق، لم يتوقف توكاييف عند هذا الحد بل استمر بعناده وتحقيق مبتغاه في إجراء الإصلاحات الإدارية ومن أبرزها تغيير وإقالة موظفين بارزين موالين لنزربايف وصلت إلى حد إقالة ابنته داريغا نزارباييف وما دفع الأمور إلى الانفجار الأكبر.
أطماع دول وتاريخ
في 7 يناير/ كانون الثاني 2022، رأى العالم رئيسا مغايرا في كازاخستان، حيث عجلت الأحداث الأمنية في البلاد في كشف توكاييف الذي تحول من الدبلوماسي المرن والذكي إلى حاكم صارم بنبرة فولاذية في صوته وخطابه القاطع طالبا من السلطات الأمنية والعسكرية فتح النار للقتل دون سابق إنذار.
كما استغل توكاييف الوضع الأمني المتدهور بعد عدة أيام من الاحتجاجات ومكَن سلطته عبر إقالة الحكومة وتوليه رئاسة مجلس الأمن القومي خلفا لنزارباييف، وإجرى تغييرات أمنية وعسكرية جذرية وقرر إعادة الأمن وطلب المساعدة العسكرية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي لحماية الأماكن والمراكز الحيوية في البلاد.
كازاخستان تختار موسكو وإحباط تركي وترقب صيني
طلب كازاخستان المساعدة العسكرية من موسكو أحبط أنقرة وبدى ذلك جلياً من خلال مواقف المحللين الأتراك الذي وصفوا الأمر بالضربة الاستراتيجية العميقة لمخطط تركيا المستقبلي. وبهذا الصدد كتب المحلل التركي المقرب من حزب العدالة والتنمية، يوسف قبلان، في صحيفة تركية "روسيا تلعب لعبتها في آسيا الوسطى لمنع تركيا من إعادة لم شمل دول العالم التركي"، متهما في الوقت ذاته الولايات المتحدة، بمحاولة كسر تركيا من خلال كازاخستان، معتبرا أن "تعاظم القوة التركية يشعِر الغرب بالذعر والدخول الروسي أوقف أحد أهم المشاريع الحيوية والاستراتيجية لتركيا".
كما اعتبر أحد المحللين المقربين من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إبراهيم غول، أن آسيا الوسطى هي المحور الأهم لجميع الخطط الاقتصادية والعسكرية في العالم، ومنطقة الصراع الرئيس بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا". أما الصين التي كعادتها لعبت دور المتفرج على الأزمة بالرغم من الاستثمارات الكبرى التي بلغت نحو 34 مليار دولار أمريكي في كازاخستان اعتبرت التحرك والتوجه الروسي إلى تلك البلاد ليس بالحدث الإيجابي خصوصا كونها تستخدم كازاخستان كبلد ترانزيت لنقل النفط والغاز الذاهب نحوها.
في المحصلة، يمكن القول أن الأزمة في كازاخستان قد شارفت على الانتهاء بانتصار روسي عبر تجنب ظهور بقعة ساخنة أخرى على حدودها والإعلان عن استعدادها لتقديم المساعدة لحلفائها عند الضرورة عكس الولايات المتحدة التي تتخلى عنهم في أصعب الأوقات والتي فشلت بدورها في كازاخستان بالحصول على بعض الهدايا المجانية قبيل مفاوضاتها مع روسيا.
ويبقى الألم الأكبر لدى واشنطن هو النهج الذي تنتهجه موسكو من الزمن السوفيتي إلى يومنا هذا والقائم على مساعدة الشعوب والتدخل حصرا بطلب من الدول نفسها عكس نهج "العم سام" القائم على الغزوات والحروب والفوضى لنشر الديمقراطية والسلام الأمريكي المزعومين.
المقال يعبرعن رأي كاتبه