لم يستطع حلف شمال الأطلسي "الناتو" من تقديم أي شيء خلال مفاوضته مع موسكو، بدى القرار الأوروبي السياسي والعسكري في المنظمة عقيما بسبب افتقار وافتقاد التأثيرعلى الساحة الدولية منذ زمن بعيد مانحين واشنطن القرار الأول والنهائي لها. وأخفقت الدول الأوروبية بطرح بدائل منطقية وموضوعية لروسيا باعتبار أن دول الأعضاء الأوروبية في "الناتو" لم تعد تمتلك الإمكانيات والمميزات التي تمنحها التفوق السياسي والعسكري أمام موسكو.
من جهة أخرى، توصل الأوروبيون بعد عشرات السنين إلى قناعة مثبتة أن السياسات الأمريكية في السنوات الأخيرة تراجعت بشكل كبير وأخرها كان في أفغانستان ومنطقة الشرق الأوسط، حيث تخشى الدول الأوروبية المنضوية في حلف شمال الأطلسي "الناتو" من "سيناريو كابول" الأمريكي والذي يضع أوروبا على المحك في حال إقدامها على خطوة تصعيدية سياسية وعسكرية ضد موسكو في لحظة يمكن لواشنطن أن تخرج نفسها من المعادلة وتبقي أوروبا في واجهة الاصطدام والصراع مع روسيا.
في المقلب الأخر، وجدت موسكو نفسها مجددا في تحد جديد- قديم مع الدول الأوروبية والغرب، حيث أعربت عن موقفها الواضح بشأن التوسع العسكري الغربي الذي كشف عن نقض الناتو لكل التعهدات والاتفاقات السابقة، ووجهت رسالة صارمة للأوروبيين مفادها أن موسكو سترد عسكريا وبقوة على أي توسع أو هجوم للحلف، مشيرة في الوقت نفسه إلى أنها قدمت خلال اجتماع مجلس الناتو – روسيا عرضا يتضمن مقترحان، الأول يتعلق بمعاهدة بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن الضمانات الأمنية، والثاني يتعلق باتفاق حول تدابير لضمان أمن روسيا والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو" لحظر أي توسع إضافي للحلف ومنع إنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفياتية السابقة.
اجتماع روسيا والناتو في بروكسل، بلجيكا 12 يناير 2022
© Sputnik . Alexei Vitvitskiy
/ خيارات موسكو.. ضئيلة لكن موجعة وحتمية
انتشرت في الأوساط السياسية والإعلامية الروسية مؤخراً أنباء ومعلومات عن الخطوات والسيناروهات الروسية الاستراتيجية المحتملة المقابلة في حال لم يرضخ الغرب لطلبات موسكو، حيث اعتبر الخبراء والمحللون الروس أن لدى الكرملين خيارات ضيقة بمفاعيل قوية للجم التوسع الغربي.
وذكرت مصادرعسكرية مختلفة أن موسكو بدأت فعليا التفكير بنشر صواريخ بعيدة المدى في دول أخرى حليفة لها، كضمان للرد على الهجوم الغربي في حال وقوعه.
وبحسب الخبراء، تفكر القيادة السياسية والعسكرية الروسية ملياً بنشر صواريخ لها من طراز "إسكندر إم" في منطقة البلقان وتحديدا في صربيا الحليف الأوروبي التاريخي لروسيا في تلك المنطقة، خصوصا مع محاولات أمريكية وغربية لضم كل من أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو".
ويضيف الخبراء، إذا تم نشر الصواريخ الروسية في صربيا فهي تصبح قادرة على مراقبة مناطق الحلف الأوروبية وتضع العديد من القواعد الأمريكية في مرمى الصواريخ الروسية ومنها كوسوفو وتركيا وبلدان أخرى.
كما ظهرت في الأروقة السياسية والعسكرية الروسية سيناريوهات أخرى تتحدث عن فكرة إعادة التواجد العسكري إلى أمريكا اللاتينية وتحديدا في كوبا وفنزويلا.
التواجد العسكري في كوبا
شهدت كوبا خلال الحقبة السوفياتية تواجدا عسكريا للجيش الأحمر على أراضيها، حيث عززت موسكو عام 1962 من قدراتها الاستراتيجية العسكرية هناك مقابل السواحل الأمريكية التي باتت قاب قوسين أوأدنى تحت نيران الصواريخ السوفياتية. وانتهت باتفاق بين الطرفين على إنهاء أزمة الكاريبي وسحب السوفيات للصواريخ من هافانا.
بعد الانسحاب السوفياتي من كوبا أبقى الجيش الأحمر على مواقعه العسكرية هناك وسلمها للجيش الكوبي، الذي حرص على إبقاء هذه القواعد وتطويرها مع تغييرات طفيفة طالت تسمية بعضها وبينها "مركز تدريب" المشاة ومركز الاستخبارات اللاسلكية في منطقة لورد، بالإضافة إلى قواعد تتعلق بالطائرات الحربية وقواعد عسكرية متخصصة بالإعداد والإمداد مع تواجد عسكري روسي ضئيل اقتصر على عديد للتنسيق والإشراف العسكري.
من المنظور العسكري والتهديد الاستراتيجي، تعتبر كوبا الأقرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لكن لهذه الخطوة الروسية أبعاد يجب أن تأخذ في الحسبان وبينها الرد الأمريكي المحتمل، حيث يمتلك الجيش الأمريكي ما يكفي من أسلحة يمكن من خلالها مهاجمة القواعد والأهداف العسكرية الروسية الموجودة على الجزيرة الكوبية، ما يحتم إرسال موسكو دفاعات جوية متطورة قادرة على التصرف والدفاع عن قواتها في حال المواجهة.
وبشأن القواعد العسكرية في كوبا، ينحصر الاهتمام العسكري الروسي بعدة قواعد أبرزها القاعدة الجوية العسكرية في هافانا والمعروفة بقاعدة سان أنطونيو دي لوس بانيس، المؤلفة من ثلاث مدارج يصل طولها إلى 3.5 كلم وقادرة على استقبال طائرات توبوليف، بالإضافة إلى قاعدة هولغوين الجوية. كما سيتعين إنشاء نظام الدفاع جوي جديد وقواعد بحرية لتعزيز الدفاعات الساحلية في هافانا أو سيينفويغوس.
أزمة الكاريبي جديدة ؟
لا شك أن التوازن الاستراتيجي النووي بين القوى العظمى اليوم يعد مختلفا تماما مقارنة بستينات القرن الماضي، فالولايات المتحدة لم تعد الدولة الوحيدة التي تمتلك التكنولوجيا والتفوق والأسلحة، فروسيا باتت من الدول التي استطاعت خلال السنوات العشر الأخيرة من تحقيق قفزة مهمة في مجال التسلح والعسكر.
بالإضافة إلى ذلك، وقعت كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا على اتفاقية تلاتيلولكو بشأن إبقاء المنطقة خالية من الأسلحة النووية في أمريكا اللاتينية، حيث لن تكون هذه الدول بوارد الخروج والانسحاب من الاتفاقية، لذلك لن يكون من الممكن خلق تهديد نووي من أراضي هذه البلدان لواشنطن والعكس تماما. ومع امتلاك روسيا السفن والغواصات الحديثة فهي ستكون بحاجة إلى الموانئ والقواعد الساحلية في كوبا لوضع صواريخ "تسيركون" المميز والأسرع من الصوت بدلا من الصواريخ التي تحمل رؤوساً نووية.
قاذفات "تو-160" - تدريبا تعسكرية مشتركة بين روسيا وفنزويلا، 10 ديسمبر/ كانون الأول 2018
© AFP 2023 / Federico Parra
احتمال فنزويلا
يعد هذا الخيار أكثر صعوبة لكنه مرن نسبيا لروسيا، وذلك بسبب النية الفنزويلية الايجابية باستقبال القوات العسكرية الروسية، حيث دعا الرئيس الفنزويلي، هوغو تشافيز، خلال عهده روسيا إلى إرسال قواتها، مقدماً لهم جزيرة لا أورشيلا الواقعة على بعد 100 ميل بحري من كاراكاس.
وتتميز هذه الجزيرة بمساحة تقدر بنحو 40 كيلومتراً مربعاً وهي تابعة قانونيا للدولة الفنزويلية وتحتوي على قاعدة جوية للطيران وقاعدة بحرية وعدد من المنشآت العسكرية الأخرى، بالإضافة إلى رادار عسكري ومقر إقامة احتياطي للرئيس الفنزويلي.
وبالتالي بمقدور القوات الروسية الاستفادة من هذه المنشآت والقواعد، خصوصا مع ورود تقارير أمريكية تتحدث عن قيام السلطات الفنزويلية في السنوات السابقة بتوسيع مطار الجزيرة ليصبح قادرا على استيعاب الطائرات العسكرية الكبيرة والحديثة والنشاط الجوي الروسي الذي شهدته كراكاس خلال عام 2018 تمثل بالمناورت الجوية المشتركة بين روسيا وفنزويلا.
كما تسمح المنطقة الشاسعة وغير المأهولة بتثبيت قواعد وأنظمة صاروخية متنوعة ما سيوفر غطاء دفاعيا كاملاً للجزيرة الفنزويلية في حال تمكنت روسيا من تسلمها والتحكم بها.
وكشفت وسائل إعلام أمريكية في وقت سابق، أن روسيا تركت أثرا كبيرا لها في السماء الفنزويلية، وذلك خلال قيام القاذفات الروسية بزيارة قاعدة "ليبرتادور" الواقعة قرب مدينة ماراكاي شمالي البلاد عام 2018، حيث تحتوي القاعدة الجوية على طائرات من طراز "سو 30" تابعة للسلاح الجوي الفنزويلي، وبالتالي تعد هذه القواعد أراضي خصبة أخرى لروسيا في هذه المنطقة لمواجهة التوسع الغربي.
التواجد الروسي في فنزويلا (رسم كاريكاتوري)
© Sputnik . Виталий Подвицкий
لا شك أن الرغبة الروسية في التوسع العسكري غير واردة حالياً، لكن الأحداث والمتغيرات الجيوسياسية وسياسات التوسع العسكري الغربي والاقتراب من الحدود الروسية قد يدفع موسكو للتفكير بهذه الخطوات المتاحة والفعالة لتقويض الغرب والولايات المتحدة، لكن يبقى القرار الأول والأخير للدول المضيفة حيث ستعمل بدورها على وضع شروط أو مطالب مقابل التواجد العسكري الروسي.
كما أن بعض الدول تواجه عقبات دستورية بهذا الشأن وبينها فنزويلا التي يحظر دستورها الرسمي على نشر قوات أجنبية على أراضيها، وبالتالي هي بحاجة إلى قانون برلماني خاص يجيز بنشر هذه القوات على أراضيها، كما ستقوم هافانا وكاراكاس باستغلال هذا الحدث من جانبها واستغلاله لرفع شروط التفاوض مع واشنطن.
وتبقى الأيام وحدها كفيلة برسم الخطوط والمواقف والقرارات المستقبلية لروسيا في مواجهتها للتمدد العسكري الغربي الأمريكي.
المقال يعبرعن رأي كاتبه