وزاد على ذلك انتشار جائحة "كوفيد 19"، والتي أثرت بشكل واضح على سلاسل التوريد في العالم، مما ولد اختناقات في امتداد السلع والخدمات، وأدى ذلك أيضاً إلى ارتفاع الأسعار.
وبحسب البيانات، فقد انكمش النمو الاقتصادي ووصلت نسبة الفقر إلى 90% من إجمالي عدد السكان، وأصبح أكثر من 12 مليون سوري يعانون حالياً من انعدام الأمن الغذائي وفق تقديرات برنامج الأغذية العالمي.
وارتأت الحكومة السورية اللجوء للحلول السهلة لتحصيل الأموال في ظل هذا الواقع المتأزم وبدل أن تتجه لحماية فقرائها ودعمهم، كان رفع الدعم أولها وأسهلها.
انسحاب من الدور الاجتماعي
إن رفع الدعم بحجة تقديمه لمستحقيه لا يمكن إلا أن يفسر إلّا تخليًا غير مباشر عن الدور الاجتماعي للدولة بعد تخليها فعلياً عن دورها الاقتصادي.
وكما قال معاون وزير الصناعة أسعد وردة فإن "إعادة ترشيد الدعم من وجهة نظرها هو أولى خطوات تصحيح الكتلة النقدية المخصصة للدعم، وتوجيهها نحو فئات تستحقها، من خلال توزيع هذه المبالغ نقداً على الشرائح المستهدفة ولاسيما شريحة الموظفين والعسكريين، والأسر التي".
تخبّط وعشوائية
وعلى الرغم من تصريح معاون وزير الاتصالات والتقانة المهندسة فاديا سليمان أن "اللجنة الاقتصادية في رئاسة مجلس الوزراء درست بدقة كبيرة موضوع استبعاد فئات من الدعم وذلك بهدف الوصول إلى الشرائح الأكثر هشاشة في المجتمع".
إلا أن ما شاهدناه خلال الأيام الأولى من التطبيق لا ينم عن دراسة ولا دقة، إنما تخبّط وعشوائية دون الاستناد لمعايير مدروسة.
فكما يرى عضو مجلس الشعب والخبير الاقتصادي والمالي زهير تيناوي فإن "المؤشرات التي حصلت عليها الحكومة في تحديد الشرائح التي لا تستحق الدعم حسب رؤيتها لم تستند إلى أسس علمية أو منطقية".
وأشار إلى "أن الاعتماد في حجب الدعم على ملكية السيارة أو السجل التجاري أو الأسهم في سوق البورصة أو التسجيل في الغرف التجارية أو الصناعية والمساهمين في المصارف، ومتوسطي وكبار المكلفين بالضريبة المالية والمحامين، والأطباء الممارسين لأكثر من عشر سنوات وغير ذلك من المهن التي ليست بالاعتبارات، والأسس الموضوعية، فهذه كلها متغيرات وليست ثوابت، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون أساساً للحرمان من الدعم".
معايير الاستبعاد
واعتمدت الحكومة في تحديد الشريحة المستبعدة من الدعم على ثلاثة معايير هي الثروة والملكية ومستوى الدخل.
وبالأرقام فإن البطاقات المستبعدة في المرحلة الأولى وبحسب معاون وزير الاتصالات تجاوزت 590 ألف بطاقة أسرية أي ما يعادل 15% من البطاقات الأسرية.
وأما العدد الكلي للسيارات فتجاوز 450 ألف سيارة، وبذلك تكون النسبة المئوية لاستبعاد السيارات الخاصة هي 47%، وتم استبعاد من يملك سيارة ذات محرك بسعة أكثر من 1500 cc، ومن طراز 2008 فما فوق، من دعم المشتقات النفطية أو من يملك أكثر من سيارة.
عواقب وخيمة
ولكن هيكلة الدعم كما سمتها الحكومة، لم تكن هيكلة أو عقلنة بالمعنى الصحيح، ولن تتجه نحو ماوصفته الحكومة "بتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية"، وتخفيف عبء الدعم الذي شكل في موازنة 2022 أكثر من الثلث.
وقالت الدكتورة لمياء عاصي وزيرة الاقتصاد سابقاً، إن "رفع أسعار حوامل الطاقة بأنواعها، بالتأكيد سيؤدي الى زيادة تكاليف الإنتاج الصناعي والزراعي وتربية المواشي وغيرها، وسيرتفع أكثر معدل التضخم في الوقت الذي يعاني معظم الناس من ارتفاع تكاليف المعيشة وعدم كفاية الدخل".
"إن من يملك سيارة موديل 2008 لا يعني إطلاقاً أنه قادر على شراء المواد النفطية والغذائية بالسعر الحر المرتفع".
واضافت أن "رفع الدعم في ظل ظروف الفقر والتدني الشديد للقدرة الشرائية للمواطنين وانعدام الأمن الغذائي لنسبة عالية جداً من الأسر السورية، يمكن أن ينتج عنه تداعيات خطيرة اجتماعية واقتصادية، كلفتها تفوق كلفة الدعم الذي يجب أن يرفع بشكل تدريجي وتسبقه إجراءات كثيرة لتخفيف آثاره".
الطبقة المتوسطة ضحيًة
وأشار الباحث الاقتصادي عمار يوسف إلى أن "قرار رفع الدعم سيؤدي إلى سحق الطبقة المتوسطة وطحنها، وهي لا تتجاوز حالياً 3% من عدد السكان".
ونوه إلى أن نتيجة أخرى وهي "عملية الفرز الطبقي التي ولّدها القرار والتي انبثق عنها، المستبعد وغير المستبعد، وهو ما يتوجب دراسة ومعالجة اجتماعية دقيقة، والأهم من ذلك كله أن تكون مادة الخبز خارج حسابات قرار رفع الدعم".
التعويض النقدي.. تجربة فاشلة
وبينما ينتفض كثيرون للانتقاد وتحميل الحكومة مسؤولية الأخطاء، سواء في هيكلة الدعم أو في رفعه، ينبري الاقتصاديون ليقدموا حلولاً علها تكون ناجعة في التخفيف من أثر رفع الدعم الذي اتخذته الحكومة ولن تتراجع عنه كما يبدو.
ويرى عميد كلية الاقتصاد في جامعة طرطوس، الدكتور طلال سليمان، أن "الحل الأفضل لإعطاء الدعم لمستحقيه، قد يكون في إعادة النظر بآلية الدعم وليس برفعه نهائياُ، بحيث يكون الدعم نقدياً كما هو الحال في كثير من الدول، وخاصة لأصحاب الدخول المحدودة، وهي الشريحة الأوسع في المجتمع والأكثر تضرراً وتأثراً بالأزمات الاقتصادية".
وأضاف: "ولكن وبالمقابل، فإن الوفر المتحصل من هيكلة الدعم يجب أن يوجه إلى دعم مشاريع البنية التحتية، ودعم القطاعات الحيوية، والزراعة، وقطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة".
ويعتقد سليمان أن ذلك "يؤدي في مرحلة لاحقة إلى رفع الدعم عن شريحة أكبر، ويحقق وفراً أكبر في عملية التنمية التي يمكن أن تساهم في رفع معدل النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية الاقتصادية".
وهو مالا تراه الدكتورة لمياء عاصي إجراء صحيحاً فالتجارب السابقة الفاشلة تنذر بعدم اللجوء لذلك.
وتقول عاصي: "اقترح البعض، أن يكون هناك تعويض نقدي، لمستحقي الدعم من ذوي الدخول الضعيفة والثابتة، عن طريق صندوق المعونة الاجتماعية أو غيره، وبالرغم من أن هذا التعويض تم تجريبه في عام 2009، حين رفعت الدولة أسعار المازوت، وتلقّى الناس عوضاً عن ذلك تعويضات مالية بشيكات، كانت حينها تجربة فاشلة، وكلفتها عالية جداً، بسبب الفساد أولاً، وعدم الاستناد إلى قاعدة بيانات لمعرفة معلومات وبيانات الأشخاص على مستوى سورية، بحيث يتم تحديثها مما يؤدي لمعرفة دقيقة للمستحقين لهذا التعويض".
حماية الفقراء هو الدعم الحقيقي
وتشبه الدكتورة والباحثة الاقتصادية رشا سيروب رفع الدعم في الظروف الراهنة بـ"الدواء الذي تكون آثاره الجانبية أكبر بكثير من استطباباته".
لا يجوز التعامل مع ملفٍ شائك كملف الدعم بمعزلٍ عن ثلاث ركائز، أولها الحد الأدنى للأجور، وثانيها الحماية الاجتماعية، وثالثها إعانات البطالة.
وتابعت أن "هذا يستوجب تطبيق سياسة للأجور تحقق التوازن بين هيكل الأجور، وبين تكلفة الحصول على الاحتياجات الأساسية للمواطنين، مع تنفيذ برامج للحماية الاجتماعية التي تشكل خط الدفاع الأول عن الفقراء والضعفاء، وتوفير إعانات بطالة للعاطلين عن العمل تغطّي تكاليف المعيشة الحياتية الأساسية".
وأضافت: "إهمال أي من هذه الركائز سيؤدي إلى مزيد من الإفقار الذي ستكون كلفته الاجتماعية على المدى الطويل أكبر بكثير من الوفر المحقق على المدى القصير جرّاء رفع الدعم".
التهرب والاختلاس
وختمت سيروب: "قد يكون صحيحاً أن عدد المستفيدين من الدعم المباشر أكثر مما ينبغي، ولكن، في المقابل، تبلغ الإيرادات العامة الضائعة أو المهدورة الناتجة من التهرب الضريبي، واختلاس الأموال العامة، وسوء استثمار الأملاك العامة للدولة حجمًا أكبر بكثير من مبالغ الدعم، وهو ما يمكن أن نطلق عليه الدعم الضمني، فهل سترفع الحكومة الدعم الضمني أسوةً بالدعم المباشر من باب المعاملة بالمثل".