وعكست طوال السنوات الإحدى عشر أثرها العميق على المجتمع، قبل أن يعاجلهم الحصار الاقتصادي الخانق بشظف معيشي لم يعتده السوريون يوما على مدى تاريخهم الحديث.
نحرت الأوضاع النفسية والمعيشية والاقتصادية السيئة، حياة بعض السوريين الضبابية، وساهمت بإفراز ظاهرة الانتحار بشكلٍ أوسع، حيث شهدت البلاد في الآونة الأخيرة وقوع الكثير من تلك الحوادث، أو الإقدام عليها.
المدير العام للهيئة العامة للطب الشرعي في سوريا، زاهر حجو، أكد لـ "سبوتنيك" ازدياد نسبة الاضطرابات النفسية خلال الحرب وبعدها، خصوصاً مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي أثّر بعضها سلباً على عقول الشباب، ودفعت قسماً منهم إلى الانتحار، مُنبّهاً إلى عدم إهمال أي شخص يتفوه بكلماتٍ عن الموت والانتحار ولو كانت عابرة.
ووصل عدد حالات الانتحار خلال العام السابق 2021، إلى 166 حالة، موزعة بين 115 ذكور، و51 إناث، من بينها 26 حالة تحت السن القانوني "قاصر"، وذلك عن طريق الشنق في المرتبة الأولى، ومن ثم الطلق الناري، تليها حالات السموم، والسقوط من الارتفاعات، وحالة (ذبح) واحدة باستخدام الآلات الحادة.
العبور إلى الموت
"ما بقا قدرت قوم من التخت"... لجأت "ريما - اسم مستعار"، إلى الأدوية التي تحتوي على نسبة مخدّر عالية، للانتحار تسمّماً، نتيجة فقدانها لعائلتها بالكامل خلال الحرب.. آنذاك، وكان عمرها 23 عاماً.
تروي "ريما" لـ "سبوتنيك" محاولتها الفاشلة في الموت، بعد فقدانها الأمل في الحياة، واستشارات الأطباء المتخصصين بمعالجةِ الاضطرابات النفسية، خصوصاً مع تدني مستواها المعيشي الذي منعها من الاستمرار في العلاج ودفع آلاف الليرات في المراكز المختصة، التي لا تسمع داخلها إلا "أنتِ مصابة باكتئابٍ حاد"، بحسب تعبيرها.
ضغوطٌ (نفس- اقتصادية)
قبل الحرب، لطالما فضل السوريون تجنب العيادات النفسية لأسباب اجتماعية. واليوم، أصبح الشباب السوري أكثر تقبلا لهذا النوع من الزيارات، إلا أنه، ونتيجةً للفقرِ الذي دفعه الحصار الاقتصادي الغربي على هذا البلد العربي إلى حدود قياسية، وارتماء أكثر من 90% من عدد السكان تحت خط الفقر، وفقاً للإحصائيات التي عرضها الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، آخر العام الماضي، فقد أصبح هؤلاء الشباب يعانون صعوبة بالغة في مراجعة العيادات النفسية تبعا لارتفاع كلفتها.
أشار جميل ركاب، الاستشاري في الطب النفسي، خلال حديثه لـ "سبوتنيك" إلى تلك الصعوبة نجمت عن الوضع الاقتصادي الحاصل في البلاد، رغم انتشار حالات الاكتئاب والقلق والاضطرابات المتعلقة بالشدّة.
وحول إلصاق تهمة "الجنون" بالمرضى النفسيين، بسببِ الأعراف الاجتماعية الموروثة، أكّد ركاب، تغيّر نظرة الشارع السوري نسبياً حول الطب النفسي، بعدما كانت وصماً اجتماعياً للذين يعانون من الاضطرابات النفسية، معتبراً هذا التغيّر الحسنة الوحيدة للأزماتِ والحروب.
أطباء (رُحَّل)
رغم انفتاح الشباب السوري على العلاج النفسي، إلا أن بعض خريجي هذا الاختصاص (أطباء - معالجين) في السنوات الأخيرة، وضعوا سنوات دراستهم داخل حقائبهم، واختاروا الرحيل إلى الخارج، ل"تكملةِ دراستهم والعمل أو للخروجِ من مأزقِ الخدمة العسكرية الطويلة".
مازن خليل، وهو رئيس رابطة الأطباء النفسيين في سوريا، أوضح لـ"سبوتنيك" معاناة البلاد من النقص الفادح في عدد الأطباء النفسيين، من قبل الحرب حتّى. أما الآن فعدد الأطباء الفعّالين على الأرض، والذين يمارسون مهنة الطب النفسي في سوريا، بحدود ال 50 إلى 60 طبيب، أغلبهم ضمن مدينة دمشق.
وفي محاولة لعلاجِ هذا النقص، تحدّث خليل، عن الدورات التي اُقيمت سابقاً في سوريا، بإشرافِ منظمة الصحة العالمية وبالتعاون مع وزارة الصحة، لملء الفراغ في الطب النفسي، عن طريق تدريب نحو 1500 طبيب من اختصاصات أُخرى، على اكتشاف الحالات النفسية بشكلٍ مُبكر والتعامل معها إذ كانت بسيطة، أما في الحالات الشديدة فيتم تحويل العلاج إلى طبيب نفسي.
وبحسب خليل، فإن ظروف التهجير والموت وغيرها، زادت من إصابةِ السوريين باضطراب ما بعد الصدمة PTSD، بعدما كان هذا الاضطراب محصوراً بعددٍ قليل قبل الحرب، نتيجة تعرض البعض لحوادثٍ استثنائية، كتعرض فتاة لحالةِ اغتصاب.
ولكن أيّ منطقة تشهد توتراً أو حرباً وضائقة اقتصادية، من الطبيعي أن تزيد فيها نسبة الأمراض النفسية، وهذا ما تشهده سوريا اليوم، إضافة لاضطرابات الفصام، ثنائي القطب والاكتئاب.
"أنا مكتئب"..
ومع انتشارِ كلمة "أنا مكتئب - مكتئبة" في الأوساط السورية دون التفريق بينها وبين حالة الحزن، أوضح الأخصائي النفسي علي عمار لـ"سبوتنيك"، أن الحزن حالة نفسية طبيعية يمر بها الإنسان بعد تعرضه لظرفٍ قاهر يتّسم بطبيعة سالبة، أما الاكتئاب فهو مرض نفسي يُصنف ضمن فئة اضطرابات المزاج وبالتالي هو يرتبط بخللٍ ضمن النواقل العصبية في الدماغ، لذلك لا يُشخص الاكتئاب إلا بوجود أعراض معينة تستمر لمدة زمنية محددة وفق الدليل التشخيصي للأمراض النفسية والعقلية.
وحول تطور فكرة العلاج النفسي بين السوريين، بيّن عمار أن غالبية الأشخاص باتوا يفضلّون استشارة معالج نفسي لتجنّب تناول الأدوية النفسية، مما زاد في السنوات الأخيرة الإقبال على جلسات العلاج النفسي، والتي أثبتت فعاليتها في علاج الكثير من الاضطرابات، لأن المريض النفسي لا يحتاج للتدخل الدوائي إلا في حالة الأمراض الذهانية "العقلية" التي تتسم بظهور الهلوسات السمعية والبصرية والهذيانات، أو في بعض حالات الاضطرابات النفسية الشديدة كنوب الهلع واضطراب الكرب التالي للرض والوساوس القهرية واضطرابات المزاج.
حبوبٌ عابرة
رغم عدم إصابة الكثير من الأشخاص باضطرابٍ نفسي "إلا أنهم يلجؤون إلى الحبوب المضادة للاكتئاب"، وفق ما أكد أحد صيادلة دمشق، مبيّناً تناول الفتيات والشبّان لتلك الأدوية بسبب علاقة حب فاشلة أو عابرة، إضافة إلى الشريحة التي تحاول الهروب من الأرق وصعوبات النوم عن طريقِ الحبوب رغم علمهم مسبقاً أنها يجب أن تكون تحت إشراف طبيب.
وقال الصيدلاني الذي فضل عدم ذكر اسمه: إن بعض الأشخاص الذين كانوا يترددون إليه، تمكنّوا بقليل من المساعدة الطبية التي قدمها لهم، من منع أنفسهم عن طلب تلك الحبوب، لتيقنهم من أن كل ما مروا به ليس سوى مرحلة زمنية سيئة، إلا أن قسما آخر منهم غابَ عن الواقع تماماً نتيجة إدمانه تناول أدوية مضادة للاكتئاب ذات عيار ثقيل جداً، والتي بدورها أخذت مفعولها داخل دمه، نتيجة تخاذل بعض الصيادلة الذين يقدمون الأدوية النفسية والعصبية للزبائن دون أي دليل على إصابتهم بمرضٍ معين لزيادة الأرباح، بحسب تعبيره.