اللبلابي... أكلة شعبية شهيرة يحارب بها التونسيون البرد

فكلما تقلصت درجات الحرارة أقبل التونسيون بكثافة على هذه الأكلة التي تعتبر ملاذا للباحثين عن الدفء بفضل مكوناتها الحارة والساخنة وعن تقوية مناعة الجسم نظرا لاحتوائها على أغذية صحية.

واللبلابي هو من أشهر وأعرق الأكلات الشعبية وأقربها إلى قلوب التونسيين رغم بساطة مكوناته وسرعة تحضيره، فقوامه الأساسي قطع من الخبز البارد والحمص المطبوخ.

تنطلق رحلة زهير العياري­ (56 سنة) في حانوت "ولد حنيفة" منذ خيوط الصباح الأولى، فهو يقول لـ"سبوتنيك"، إن زبائنه يأتونه فجرا لطلب أكلتهم المفضلة ويتزاحمون عليه بالعشرات للتزود بصحفة اللبلابي (صحن تقليدي مصنوع من الفخار) التي يُسلّحون بها أجسادهم لمقاومة يوم طويل من العمل.

وحانوت ولد حنيفة هو أقدم محل يصنع هذه الأكلة الشعبية في العاصمة، فمنذ العام 1952 تتربع جدرانه في قلب باب الجزيرة المحاطة بأسواق الخضر والغلال والملابس ومحلات التجارة وغيرها.

وتتوارث عائلة حنيفة هذا المحل منذ زمن بعيد ويصر أحفادها على المحافظة على نكهة اللبلابي الأصيلة التي درج أجدادهم على إعدادها، "فهي السر الذي يجلب الزبائن إلى هذا الحانوت دون سواه"، يقول العم زهير.

ويضيف: "قبل الثورة لم تكن الحركة تهدأ في هذا الحانوت، كنا نعمل ليلا نهارا ودون انقطاع حتى نجاري طلبات الزبائن التي لا تعرف التوقف.. أما اليوم فنحن نستقبل الطلبات منذ السادسة صباحا حتى منتصف الليل"، يتابع ضاحكا "لو ترك الأمر للزبائن لما أقفلنا".

ويستقبل حانوت ولد حنيفة عشاق اللبلابي من كل أنحاء تونس وحتى من خارجها، فهو أكلة "الزوالي" (الفقير) التي مهما ارتفع ثمنها فإنها تبقى في متناول الجميع.

يقول العم زهير، "يتراوح سعر صحفة اللبلابي بين دينارين إلى خمسة دنانير (دولار واحد في المتوسط)، وحتى الذين لا يمتلكون مالا في جيوبهم فهذا المحل يستقبلهم برحابة صدر".

وتبدأ مراحل إعداد اللبلابي بنقع الحمص وسط وعاء من الماء قبل ليلة من تقديمه للزبون، ثم يترك ليغلي مع إضافة الملح والزيت وملعقة من كاربونات الصوديوم، ويؤكد العم زهير "دون هذه الملعقة ستنتظر ما يزيد عن 10 ساعات للحصول على حمص طريّ".

أما المرحلة الثانية، فتشمل سكب حساء الحمص المطبوخ على قطع الخبز الذي مضت عليه أيام قليلة، ثم إضافة بيضة مسلوقة مع ملعقة أو أكثر من الهريسة والفلفل المجفف، ويضاف إلى ذلك الثوم وزيت الزيتون وخليط من التوابل التونسية مثل الكمون والفلفل الأسود، ويزين في النهاية بالتونة وحبات الزيتون وفقا للطلب.

كما يفضل بعض الزبائن خلط اللبلابي "بالهرقمة" التي يتم إعدادها بشكل مستقل ضمن حساء يتكون أساسا من سيقان البقر، وهي الأخرى لها توابلها الخاصة.

واللبلابي هو الأكلة الوحيدة التي يشارك الزبائن في إعدادها، إذ تُوكل إليهم مهمة تقطيع الخبز داخل الصحفة ثم تقديمها إلى الطباخ لملئها بالمكونات المذكورة سالفا، ثم تعود مرة أخرى إلى الحريف الذي يتولى خلط المكونات حتى تمتزج وفقا للحد الذي يرغب فيه.

ومن المعلوم، أن اللبلابي هو زاد التونسيين في فترات البرد، إذ يتنافس عليه الزبائن خاصة في فصل الشتاء إيمانا منهم بأنه علاج طبيعي للسعات البرد القارس، لذلك تراهم يقبلون على تناوله في ساعات الصباح الأولى رغم أنه أكلة حارة بامتياز.

يحصل "فاروق" على صحن من اللبلابي كل يوم، وهو لا يترك هذه العادة منذ 40 عاما، يقول متحدثا لـ "سبوتنيك": "لا يمكن أن يمر يوم دون أن أغذي جسدي بصحفة اللبلابي سواء أكان الفصل شتاء أم صيفا".

ويرى فاروق أن اللبلابي خلافا لكونه أكلة صحية ومشبعة بالعناصر الغذائية المفيدة، فهو أيضا يزوّد جسده بالحرارة والنشاط اللازم الذي يمكّنه من مقاومة يوم شاق من العمل.

بدورها، قالت زينة لـ "سبوتنيك"، إنها من محبي هذه الأكلة الشعبية، وأنها تقطع أحيانا مسافة بعيدة عن منزلها أو مكان عملها للحصول على صحفة شهية من اللبلابي.

تضيف، "في هذا البرد القارس يستحق الأمر العناء، فليس هناك شيء أكثر مقاومة للبرد من اللبلابي، إنه يحرك الدماء المتجمدة ويساعد الجسم على تجديد نشاطه.. قصتي مع اللبلابي هي قصة عشق لا تنتهي".

ورغم أن اللبلابي وخاصة الممزوج بالهرقمة صنّف على كونه أكلة رجالية لسنوات، إلا أنه لم يعد من المستغرب في تونس رؤية الفتيات وهن تتسابقن على ملئ بطونهم بطبق اللبلابي الحار. يقول صاحب محل لإعداد اللبلابي "صارت الإناث أكثر استهلاكا من الرجال للبلابي.. لم يكن الأمر كذلك في السابق، وقتما كانت النساء يخجلن من طلب طبق من الهرقمة".

قلة من التونسيين يعلمون حكاية اللبلابي مع التاريخ، وأنه رغم قدمه فإن أصوله الحقيقية ليست تونسية وإنما تركية.

يقول المؤرخ محمد الطرابلسي لـ "سبوتنيك"، إن كلمة اللبلابي تعني الحمص باللغة التركية، مشيرا إلى أن الأتراك هم من استقدموا هذه الأكلة إلى تونس حينما كانت إيالة عثمانية.

ولفت إلى أن الجيش الانكشاري كان يعتمد في غذائه على الحمص بشكل أساسي نظرا لسهولة نقله ولاحتوائه على نسب مرتفعة من الحديد الذي يزودهم بالطاقة. وأكد أن بعض الدراسات ترجع دخول اللبلابي إلى الثقافة الغذائية التونسية إلى العهد الحفصي.

وبين أن اللبلابي ترسخ في الثقافة التونسية، حتى أنه تحول إلى أكلة رسمية للتونسيين خاصة من الطبقات الضعيفة، مشيرا إلى أن ثمنه لم يكن يتجاوز 350 فرنكا (ثلث دينار).