وبينما ظنّت الأغلبية في تونس أن الرئيس قيس سعيد يسعى إلى حذف مرجعية الإسلام من الدستور استجابة لرؤية علمانية تطالب بفصل الدين عن الدولة ولرؤية سياسية تقطع مع استغلال الإسلاميين للفصل الأول من الدستور، جاءت تصريحات رئيس الجمهورية الأخيرة لتفند هذه التأويلات وتوحي للبعض بأن أفكار الرئيس تتطابق مع رؤية دينية محافظة تعتبر أن الدولة خادمة للأمة وتسعى إلى تحقيق مقاصد دينها ألا وهو الإسلام.
هذا التأويل، برره البعض بحديث رئيس الجمهورية عن أن "الدستور الجديد سيعمل على تحقيق مقاصد الدين الإسلامي ومقاصد الشريعة الإسلامية".
وقال سعيد خلال إشرافه على انطلاق أول رحلة للحجيج التونسيين "لن يتم التنصيص على دولة دينها الإسلام في الدستور الجديد، بل سيتم الحديث عن أمة دينها الإسلام.. وهنالك العديد من المغالطات التاريخية في الحديث عن الأمة.. سيتم العمل في الدستور الجديد على تحقيق مقاصد الدين الإسلامي والشريعة الإسلامية".
فهل تنسجم هذه الرؤية مع إرادة الشعب التونسي ذي الأغلبية المسلمة؟
ما هو موقف التونسيين؟
وبسؤاله عن الموضوع، يقول الشاب التونسي ماهر زايد (24 سنة)، لـ-سبوتنيك- إن هذا التعديل قد يصب في اتجاه إيجابي، مضيفا "لطالما استغل الإسلاميون وخاصة حركة النهضة وائتلاف الكرامة عبارة الدولة دينها الإسلام لتحقيق أغراضهم السياسية الضيقة وغسل عقول الناس".
وشدد على أنه من الضروري لرئيس الجمهورية توضيح هذه الجوانب المهمة التي يروج البعض على أنها مسائل ثانوية مقارنة بالإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية، وأن لا يتم السماح مجددا لأحزاب بعينها أن تكون وصية على المسلمين كما كان الحال سابقا.
ويرى عبد الله نصر (56 سنة) أن الإسلام ليس في حاجة إلى دولة حتى تحميه، وأن الدين لا يعبر عنه مجرد بند في دستور كتبه البشر بل هو علاقة بين الخالق والمخلوق.
وأردف متحدثا لـ -سبوتنيك- "من الصواب اعتبار الإسلام دينا للأمة وليس دينا للدولة"، مستدلا على ذلك بآية قرآنية في سورة آل عمران يقول نصها: " كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ".
بينما تعتقد آية بن سالم (29 سنة) أن رئيس الجمهورية لا يختلف عن غيره من السياسيين الإسلاميين الذين حكموا البلاد، مشيرة إلى أن الرئيس يسعى هو الآخر إلى أسلمة تونس بعد أن فشلت في ذلك النهضة.
وتساءلت آية في تصريح لسبوتنيك "حينما يقول رئيس الجمهورية إن الإسلام دين الأمة.. إذن هل سيلغي وزارة الشؤون الدينية؟ ومن سيشرف على المسائل الدينية وعلى المساجد والمنابر الدينية؟ هل سيتخاصم المسلمون على إدارتها؟.. الإسلام يجب أن يبقى دين الدولة مع التنصيص على احترام بقية الديانات التي يعتنقها جزء من التونسيين".
فيما يرى ضياء بعطوط (28 سنة) في تصريح لسبوتنيك أن التونسيين متصالحون مع دينهم ومع ثقافتهم، وأن الحديث عن تغيير البند الأول من الدستور وتغيير عبارة الإسلام دين للدولة لا يفيد الشعب التونسي في شيء ولا يغير من أحوالهم ولا من معتقداتهم.
وتابع "التونسيون مسلمون بطبعهم ومتصالحون مع بقية الديانات الأخرى التي تعيش بينهم، ولكل أن يؤمن بما يشاء.. ما يهم التونسيين سواء كانوا مسلمين أو يهود أو نصارى أو حتى بوذيين ليس تغيير الدستور أو النظام وإنما تحسين وضعهم الاجتماعي وإطفاء لهيب الأسعار والظلم الاجتماعي التي سبق وأحرقت محمد البوعزيزي قبل عشر سنوات".
وأضاف: "إما أن يكون للدولة مرجعية دينية وتكون الدولة راعية للشأن الديني أو لا يكون لها ذلك ويكون الشأن الديني شأنا مجتمعيا، وهنا يكمن الخطر".
كيف سيُدار الشأن الديني؟
إلى ذلك، يحذّر مراقبون ومختصون في تونس من تبعات تعديل الفصل الأول من الدستور، خاصة في علاقة بمستقبل إدارة الشأن الديني.
وفي هذا الصدد، يرى الرئيس الشرفي للشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الإنسان والرئيس السابق لهيئة الانتخابات كمال الجندوبي في تصريح لـ -سبوتنيك- أن ما يقترحه رئيس الجمهورية يُراد منه تجميع الشأن الديني (أن يكون الدين شأنا مجتمعيا) وجعله أمرا مفروضا على الناس.
وتابع "تصريحات الرئيس تدل أيضا على أن الدولة لن يكون لها دور في إدارة الشأن الديني، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل حول من سيشرف على إدارة المساجد.. هل هي الدولة أم مجموعات أخرى؟ ومن هي تلك المجموعات؟ هل هي مجالس إسلامية جديدة؟ وكيف ستكون تركيبتها؟ هل من مسلمين فقط؟ وإذا كانت تتألف من مسلمين فقط، هل هم من الأئمة أم من غير الأئمة؟".
ولفت الجندوبي إلى أن الدولة بالدستور الحالي تحرص على تحييد المساجد وتضمن عدم تدخلها في الشأن السياسي خاصة في المراحل الانتخابية، مشيرا إلى أن التصور الذي يقدمه الرئيس سيوسع من دور المساجد التي لن ستنزع عنها الرقابة.
ونبّه الجندوبي إلى مآلات قانونية لهذا التصور، قائلا "حينما يصبح الإسلام دينا للأمة بمعنى أن كل التشريعات الصادرة عن الهيئات بما فيها التشريعية ستخضع مستقبلا إلى هذا المعطى الجديد.. وبالتالي سيستند التشريع على مقاصد الإسلام والشريعة في كل الميادين فيصبح الأمر وكأنه عملية فتوى".
وأشار الجندوبي إلى أن هذا التصور سينعكس على مسائل أخرى على غرار المساواة والحريات الفردية التي تتعارض مع النص الديني، وفقا للقراءة السلفية.
واعتبر أن "هذا التوجه خطير جدا ويُرجع تونس إلى تصور قديم يُكرّس لرؤية سلفية تتجاهل كل التطورات التي حصلت والتي تفاعل فيها الشعب التونسي مع الحداثة دون أن يفقد ثقافته أو انتمائه إلى الدين الإسلامي"، مشيرا إلى أن الرئيس يغالط الشعب من خلال الترويج بأن التونسيين فقدوا انتمائهم للإسلام وللثقافة العربية الاسلامية.
واستغرب الجندوبي غياب ردة فعل قوية تتصدى لما وصفه بالفكر السلفي الذي سيعيد تونس إلى فكر الحروب الإسلامية وإلى نقاشات القرن التاسع عشر، مشيرا إلى أن دستور 2014 حسم هذه النقاشات من خلال التنصيص على أن الإسلام دين الدولة وعلى أن الدولة مدنية وحامية لحرية المعتقد.
مغازلة جمهور المحافظين
ونقل أستاذ القانون الدستوري عبد الرزاق المختار لـ -سبوتنيك- خشيته من أن يبسط رئيس الجمهورية تصوره الخاص للدين على الشعب التونسي مستخدما مثلا شعبيا: "الخوف كل الخوف أن نهرب من القطرة لنقع تحت الميزاب (الأنبوب الذي يحمل ماء المطر)".
وتابع "مقاربة الرئيس تبدو في ظل ما نعلمه عن طبيعة مواقفه من الإرث والمساواة والعدل أقرب للمقاربة المحافظة منها للمقاربة الحداثية، فرؤية الرئيس لم تكن يوما رؤية حداثية أو ليبرالية".
ويعتقد المختار أن الرئيس قيس سعيد يسعى بهذا التوجه إلى "مغازلة جمهور المحافظين والمشاركين في استفتاء 25 يوليو"، محذرا من صدام مرتقب بين المقاربة الحداثية والمقاربة الماضموية فيما يتعلق بالمضامين الدستورية، وهو ما سيطرح مسألة الاستقطاب الهووي التي ستعمق حالة الانقسام داخل المجتمع التونسي، وفقا لقوله.
ويرى رئيس معهد تونس للسياسة أحمد إدريس في تعليق لـ -سبوتنيك- أن الحفاظ على الفصل الأول من الدستور في صيغته الحالية هو "خيار توافقي يرضي الجميع ويترك المسألة في يد المحكمة الدستورية التي سوف تفصل في تأويلاتها لهذا الفصل، وهو ما له تعشه تونس على اعتبار أن تأسيس هذه المحكمة تعطل".
ويتصور إدريس أن الإبقاء على الإسلام دينا للدولة سيضمن الاستقرار وتوافقا أوسعا مع مع الرؤى المختلفة الموجودة في المجتمع التونسي.
فيما يعتبر الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل سمير الشفي في تصريح لـ "سبوتنيك"، أن تضمين مرجعية الإسلام دينا للدولة في الدستور مسألة مبدئية لا تقبل الإلغاء أو التعديل، مشيرا إلى أن الفصل الأول من الدستور يعبر عن هوية ضاربة للقدم للمجتمع التونسي الذي تقاسم حل مشكلاته عبر أكثر من 14 قرنا وأثمرت نقاشاته عن انتمائه للأمة العربية الإسلامية، معتبرا أن "أي محاولة للمساس بهذه الهوية هي محاولة فاشلة".