بهذه العبارات، لخّصت الشابة التونسية عبير الكرغلي نظرتها لـ "الوشم" الذي ترى فيه أكثر من مجرد خطوط أو كتابات أو رسوم تجميلية أو أشكال مبهمة تنحت على الجسد. هو بالنسبة إليها "سلاح صامت".
و"الوشم" هو صبغ لا يُمحى بأثر الزمان يُصبغ على الجلد بواسطة إبرة يتم بواسطتها تسريب الصبغ عبر فتحات دقيقة الحجم ويختلط بالدم. وتدريجيا تتحول الجروح إلى خطوط دائمة يشكّل بها فنان الوشم رسمته النهائية وفقا لرغبة الحريف.
ومع مرور السنوات انتشر الوشم بين عموم التونسيين بعد أن كان حكرا على الأمازيغ وتحول تدريجيا إلى أسلوب تجميلي يحصد انتباه الجميع خاصة من فئة الشباب، وهو اليوم حاضر بقوة كأداة للتعبير عن الرأي والذات، حسب مرتاديه.
مسرح للتعبير عن الآراء
عبير (24 سنة) واحدة من التونسيات اللاتي تحدين النظرة الدونية للوشم التي تختصره في مجرد رسم يشوّه الجسد ويخالف عادات المجتمع وتعاليم الدين والصحة. تقول لـ "سبوتنيك": "كثيرا ما أسعى إلى كسر هذه الصورة النمطية، فالوشم فن قبل كل شيء وأداة تغنيك عن ألف كلمة".
رسمت عبير أول وشم لها وهي في سن الثامنة عشر، ولم يكن اتخاذ هذه الخطوة أمرا هينا بالنسبة لها خاصة وهي التي تنحدر من أسرة محافظة تنظر للوشم على أنه وصم اجتماعي يشوّه براءة الإناث ويلحق بهن "العار".
بدورها، تُخبر مرام وهي شابة عشرينية "سبوتنيك" بأن "الخروج عن القواعد السائدة والتخلص من الموروث مهمة صعبة على الإناث أكثر منها على الذكور، ومع ذلك لا بد لنا أن نتمسك بأفكارنا وبنظرتنا الخاصة للحياة".
وتفاخر مرام بفكرة أن يُحوّل الوشم جسدها إلى مسرح للتعبير عن ما يخالج ذهنها من أفكار وقضايا دون الحاجة إلى الكلام، مشيرة إلى أن "الوشم شبيه جدا بلوحة يتفنن الرسام في رسمها وإبلاغ معانيها إلى الناس".
"الوشم... أسلوب حياة"
"أمين العبيدي"، شاب تونسي قاده ولعه بالوشم إلى دراسته ثم تدريسه للآخرين بطريقة احترافية ومتقنة. وهو اليوم عضو في أول مدرسة وطنية تعلّم الوشم في تونس والأولى أيضا في منطقة شمال أفريقيا.
يقول أمين لـ "سبوتنيك"، إن تعليم الوشم هي أفضل تجربة عاشها طيلة ثماني سنوات، مؤكدا أنه يتلقى طلبات مسترسلة لتعلم هذا الفن. وأضاف "أن تصبح مختصا في الوشم هو حلم قريب جدا من أي شاب، فعالمنا مليء بالفن والموسيقى والعروض".
ويؤكد أمين أن أعداد حاملي الوشم في تونس أكثر بكثير مما يعتقد البعض، مشيرا إلى أن 5 بالمائة من سكان تونس العاصمة موشمون، معتبرا أن هذه النسبة مهمة إذا ما استثني الأطفال وكبار السن.
ويرى أمين أن البعض يمتلك أفكارا خاطئة عن الوشم، من قبيل أنه مضر بالصحة. يضيف "لا يسبب الوشم أي ضرر جسدي لصاحبه إذا ما أجريت العملية في ظروف صحيحة تتم فيها المحافظة على النظافة". وتابع ضاحكا "الضرر الوحيد الذي قد يحدث لك هو أن توشّم اسم حبيبتك ثم تنفصل عنها".
ويعتبر محدثنا أن الوشم هو أسلوب حياة ووسيلة للتعبير عن الذات وأنه الفن الأكثر التزاما من بين بقية الفنون، فالوشم يرافقك طيلة حياتك، مؤكدا أن ما يجمع بين مرتادي الوشم هو تمردهم ورغبتهم في إثبات سلطتهم الكاملة على جسدهم وكأنهم يقولون للعالم "هذا جسدي وأنا حر في أن أفعل به ما أشاء".
ويشير أمين إلى أن البعض الآخر يلتجأ إلى الوشم إمّا لغايات تجميلية، أو لاكتساب ثقة أكبر في النفس، أو بحثا عن الجاذبية، ولكن أيضا لإبلاغ رسالة ما قد يعجز لسانه عن البوح بها.
وأضاف: "يعتقد البعض أن حاملي الوشم هم أناس سيئو الطباع، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما، فالوشم فن نبيل ومعظم مرتاديه هم أناس لطفاء وحساسون، فلا يخفون ما بداخلهم ويعبرون عنه عن طريق الوشم".
عادة أمازيغية متجذرة
وقبل أن يتحوّل إلى أسلوب تجميلي وتعبيري معاصر، كان الوشم في تونس ولا يزال سمة تميّز الأمازيغ (السكان الأصليون للبلاد)، تجده على أجسادهم في أشكال هندسية تقليدية مختلفة ينقلون بها عدة رسائل ومعاني، ويسمى بلغتهم "تِكاز".
وتؤكد كاهنة الطالبي وهي شابة أمازيغية وحقوقية لـ "سبوتنيك"، أن الوشم عادة أمازيغية ضاربة في القدم، لها طقوسها ونواميسها ودلالاتها الخاصة.
وتابعت: "استخدم الأمازيغ الوشم لغايات ثلاثة، الأولى هي تمييز قبيلة عن أخرى، إذ يحرص الأمازيغ قديما على توشيم أطفالهم في أرجلهم، فإذا ما تخلفوا يوما عن الرحيل (القافلة) تتمكن القبيلة التي تجدهم من إرجاعهم إلى ذويهم".
ولفتت الطالبي إلى أن الوشم يستخدم أيضا كأداة للزينة بالنسبة للمرأة الأمازيغية حيث تزين به وجهها وعنقها وأرجلها، مشيرة إلى أن الوشم الأكثر شيوعا لدى الأمازيغيات هو علامة مع (+).
وأوضحت: "هذه العلامة تعني بلغتنا حرف التاء وليس لها أي دلالة دينية كما يظن البعض، فالتاء تلاحق الأنثى في جميع مراحل عمرها، فتسمى "تافروخت" حينما تكون طفلة، ثم تصبح "تاقيت" في مرحلة الشباب. وعندما تتزوج تصبح "تموطوط"، و"توسارت" حينما تشيخ".
وأضافت: "تتزين المرأة المتزوجة أيضا بخط طويل يُوشّم أسفل شفاهها تحاذيه ثلاثة نقاط من اليمين وأخرى من اليسار".
وأشارت الطالبي إلى أن الوشم الأمازيغي ليس حكرا على النساء، فالرجال أيضا يوشمون أرجلهم في شكل سوار صغير تحاذيه أحرف أمازيغية، وبعضهم يوشمون كف أيديهم على شكل بوصلة يستخدمونها لمعرفة الاتجاه أثناء الترحال".
وتؤكد الطالبي أن الوشم الأمازيغي التقليدي تراجع كثيرا وشارف على الانقراض، مقابل انتشار الوشم العصري الذي اتخذ أشكالا وألوان مختلفة تجاري تطور العصر، قائلة "لا شيء يجاري جمال وسحر الوشم الأمازيغي الذي ينقل تراثا عريقا وهوية ضاربة في القدم، ومع ذلك فإن الوشم يبقى أداة للتعبير عن ثورة الجسد على السائد وعن قضايا الشعوب، فوشم حنظلة مثلا انتشر بين طلبة الجامعات تعبيرا عن المقاومة والنضال من أجل الحرية".
تمرد على السائد
ويرى الباحث في علم الاجتماع سهيل العرفاوي في حديثه لـ "سبوتنيك"، أن الوشم حافظ على مر الأزمنة على كونه أداة للتعبير، قائلا: "حتى الأمازيغ الذين ابتكروا الوشم استخدموه كمحدد للهوية وكرمز يميز قبيلة عن أخرى".
وتابع: "مع تطور الوشم واتخاذه أشكالا وألوانا مختلفة، صار الشباب يقبلون بكثافة عليه ويعتبرونه أداة للتعبير عن الذات ووسيلة لإبراز ميولاتهم والخروج بها إلى العلن".
ولفت العرفاوي إلى أن كثيرا من الشباب يقبلون على الوشم كنوع من التمرد على الثقافة العربية السائدة التي تحرّم الوشم وتستهجنه، مشيرا إلى أن بعضهم يتحمّل ألم الإبرة وتكاليف الوشم المرتفعة رفضا لإخراجه (الوشم) من مربع الموروث الثقافي.
وأضاف: "تختلف أسباب إقبال الشباب على الوشم، فبعضهم يرى فيه موضة للعصر وتقليدا للمشاهير من الفنانين ومغني الراب والروك والمؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي، والبعض الآخر يعتمده كأداة لتوثيق لحظة فارقة في حياته مثل الزواج أو الوفاة أو الحب، وكأنه يوقف به الزمن، فتجده يوشم تاريخا ما".
ولاحظ العرفاوي أن الوشم في تونس خرج تدريجيا من دائرة النظرة الدونية التي تحصره في فئة معينة من الناس، وصار منتشرا بين جميع الطبقات واكتسى أبعادا أخرى تتجاوز البعد الجمالي إلى التعبير الجسماني الفكري.