"اسكندر تاج"، رسام غرافيتي (جداريات) من محافظة المنستير في الوسط الشرقي التونسي، اختار أن يقود رحلة طويلة إلى ربوع تونس من شمالها إلى جنوبها وأن يرسم جداريات ضخمة في 24 قرية من 24 محافظة ليعرّف بمميزاتها الطبيعية ويسلّط الضوء على مشاكلها البيئية.
ويتفنن الشاب التونسي في تحويل الجدران البيضاء الصامتة إلى لوحات فنية ناطقة ومفعمة بالحياة، سرعان ما استرعت اهتمام المارة وعلقت بقلوب سكان القرى التي يقول تاج إنها منسية.
من الورشة إلى الشارع
تلقى اسكندر تكوينا في تصميم الصورة من المدرسة العليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم، لكن شغفه الأول بالرسم قاده إلى افتتاح ورشته الخاصة التي يعرض فيها لوحاته الفنية، قبل أن يقرر امتهان فن الشارع (الغرافيتي) ويُخرج لوحاته إلى العلن.
يقول لـ "سبوتنيك": "انطلقت التجربة من الحي الذي أقطنه في مدينة بني حسان من محافظة المنستير.. رسمت حينها أول جدارية لي ومنذ ذلك الوقت قررت أن أنقل هذا الفن إلى الناس وأن أخلق علاقة مباشرة معهم دون وسيط".
تمكّن اسكندر من تحويل الشارع إلى مسرح مفتوح يعبّر فيه عن رسائله الفنية بحريّة ويشجع الناس على حماية الطبيعة وتجنب السلوكيات التي تخرّب النظام البيئي وتعكر صفو الكائنات الحية من خلال رسومات الغرافيتي التي يتفنن في إخراجها.
ولم تكن مهمة تاج سهلة، فالشارع فضاء يجمع مختلف الفئات الاجتماعية ومختلف الأعمار والأجناس على عكس المعرض الذي عادة ما يزوره المثقفون والمهتمون بالفن.
ويضيف اسكندر: "التحدي الأكبر كان مواجهة تفاعل الناس الذين وجدوا أنفسهم أمام لوحات تحاكي بيئتهم وثقافتهم".
رحلة الدفاع عن الطبيعة
ويؤكد اسكندر أن اختياره للقرى التي تكون شوارعها محملا للوحاته ليس اعتباطيا، فهو يحرص على اختيار القرى غير المعروفة التي نسيتها سياسات الدولة ويفتقر سكانها للفن، مشيرا إلى أن الشرط الثاني هو أن تتوفر في هذه القرية مقومات السياحة البيئية.
ويحرص اسكندر من خلال جدارياته على التعريف بمميزات هذه القرى التي ما تزال تحافظ على الأنشطة التقليدية ولم تلوث الأنشطة الصناعية مكوناتها الطبيعية، قائلا: "هذه القرى هي رئة تونس التي يجب المحافظة عليها وإبرازها للعلن حتى تكون نموذجا يحتذى به في حماية البيئة".
قرية "صواف" الواقعة بمحافظة زغوان في الشمال الشرقي التونسي هي المحطة الأولى التي اختار اسكندر أن يبدأ بها رحلته الفنية.
ووفقا له، "تحتوي هذه القرية على محمية للطيور النادرة والمهددة بالانقراض، وهدفنا هو تسليط الضوء على هذه الطيور حتى تتحرك السلطات والجمعيات لحمايتها".
ومن التضاريس الجبلية انتقل الفنان الشاب إلى المحيط البحري، حيث تمكن من تحويل ميناء القراطن الواقع في جزيرة قرقنة في الوسط الشرقي التونسي إلى معرض فني مفتوح يعرض لوحات ضخمة تحاكي خصائص المنطقة ومقوماتها الطبيعية.
يقول اسكندر: "هذه اللوحات لا تكتفي بعرض جمالية المنطقة، فهي أيضا رسالة تحسيسية إلى سكانها حتى يكفوا عن إلقاء البلاستيك في البحر وإلى بحارتها حتى يتوقفوا عن استخدام الديرنة البلاستيكية في اصطياد السمك لأنها تؤثر سلبيا على الحياة البحرية، فالميناء هو مورد رزق هذه الجزيرة".
الجداريات... بطاقة هوية للقرى المنسية
ويخبر اسكندر "سبوتنيك" أن جداريته تلقى تفاعلا واسعا من المارة الذين يشاركونه لحظات الرسم منذ بداية تشكل اللوحة إلى حين انتهائها، قائلا: "عادة ما يسألني الأهالي عن السبب الذي أتى بي إلى قريتهم وماذا سأرسم في شوارعهم، وسرعان ما تتحول علامات الاستفهام إلى لحظة فرح باكتمال اللوحة التي تعبر عن محيطهم وثقافتهم".
وأضاف اسكندر أنه يتشارك مع الأهالي لحظات الفرح بتحول الجدران الفارغة إلى رسومات نابضة بالحياة، مشيرا إلى أن جدارياته خلقت نوعا من الخطاب بينه وبين المواطنين.
وتابع: "يفتخر الأهالي بهذه الجداريات التي تحولت إلى بطاقة هوية لهذه القرى المنسية، فرسومات الغرافيتي ليست مجرد صور وإنما هي رسالة توعوية وأيضا جمالية".
ويحرص اسكندر على جعل الأهالي والكائنات الحية التي تميز القرى التي يزورها جزءًا من الجدارية، وهو ما خلق علاقة فريدة بين الأهالي ورسوماته.
وأضاف: "يشارك المواطنون بكثرة صورهم مع الجداريات التي أرسمها على مواقع التواصل الاجتماعي وهو ما يسهم في التعريف بالسياحة البيئية".
وأشار اسكندر إلى أن السياحة البيئية تطورت في السنوات الأخيرة بفضل المجموعات الشبابية والجمعيات التي تؤمن بأهمية المحافظة على البيئة وتسعى إلى إيصال لغة الفن إلى الجيل الجديد.