وحال لبنى هو ذات حال المئات من العائلات التونسية التي اختار أبناؤها ركوب "قوارب الموت" نحو الضفة الأخرى للبحر المتوسط ركضا خلف أحلام بسيطة قطعوا الأمل في تحقيقها في وطنهم، قبل أن ترتطم أحلامهم وتصبح كوابيس تؤرق مضاجع عائلاتهم الذين تحولت لهم أوروبا بمثابة الجحيم الذي يبتلع أبنائهم يوما بعد يوما.
"أمنيتي هي الحصول على جثة ولدي"
أيام ثقيلة من الانتظار، وأسئلة لا نهاية لها حول مصير ابنها، ويقين لا شك فيه بالوصول إلى الحقيقة ولو كانت لاذعة، هو ما تعيشه لبنى البياع التي أشقاها غياب أثر ابنها البكر، بعد أن أبحر سرا إلى إيطاليا رفقة سبعة أشخاص عبر سواحل رفراف (محافظة بنزرت شمال تونس) يوم 9 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي.
تقول لبنى لـ "سبوتنيك" بنبرة يعلوها الأسى: "قبل نحو أسبوع من مغادرته، أخبرني أيمن (24 عاما) أنه بصدد التحضير للهجرة سرا إلى إيطاليا، حاولت ثنيه عن مخططه وأخبرته بأن الوضع في أوروبا ليس كما يحلم، ولكنه قابلني بالقول بأنه لم يكسب من بلده سوى بطاقة تعريف وطنية".
لم يخطر ببال لبنى أن هذه الجملة المقتضبة ستتحول إلى حقيقة قاسية ستغير مجرى حياتها، قبل أن يفاجئها خبر عثور السلطات الإيطالية على أحد المرافقين لابنها والذي اعترف لاحقا بأنه الناجي الوحيد من غرق المركب الذي كان يقل 7 أشخاص بما فيهم ابنها.
وجدت لبنى نفسها أمام حقيقة الموت الصادمة، إذ عثرت وحدات التمشيط الإيطالية لاحقا على 3 جثث من نفس المركب الذي كان يقل ابنها، تضيف "يخبرني إحساسي كأم أن أيمن واحد من هذه الجثث الثلاثة رغم أنني لم أره".
وتابعت "أمنيتي الوحيدة هي أن تسرع السلطات الإيطالية في إجراء التحليل الجيني للجثث، وأن أحصل على جثة ولدي حتى يبرد قلبي".
تقول لبنى إنها تتنقل يوميا صحبة عائلات أفراد المركب المفقود إلى مقر الخارجية التونسية والقنصلية الإيطالية، ولكنها لا تحصل سوى على جملة واحدة لا تزيدها سوى حرقة ولوعة "انتظري حتى نتصل بك"، تقول لبنى إنها "صارت تعتبر إيطاليا وأوروبا عموما الجحيم الذي يلتهم أبنائهم بلا رجعة"
أوروبا جحيم يلتهم أبناءنا
حوّلت هذه الفاجعة حلم لبنى وغيرها من عائلات المفقودين من البحث عن مستقبل أفضل لأبنائهم إلى الأمل في الحصول على جثثهم وتكريمهم بالدفن في مقابر يمكن لهم زيارتها.
"حمادي السليتي" انقطعت عنه هو الآخر أخبار ابن أخته طارق (35 سنة) الذي شارك أيمن نفس رحلة الهجرة غير النظامية من منطقة رفراف (شمالي البلاد) نحو السواحل الإيطالية، ولكنه لا يزال متشبثا بالأمل في العثور عليه حيا.
تحدث حمادي إلى سبوتنيك قائلا: "لا نعلم إلى اليوم إن كان طارق من بين الجثث التي استخرجتها إيطاليا أم أنه مازال مفقودا في البحر، وما إذا كان المركب قد غرق بفعل الرياح والأمواج العاتية أم بفعل فاعل أم نتيجة خصومة، نريد حقيقة مصير أبنائنا".
ويؤكد حمادي أن جثة واحدة من بين الجثث الثلاثة التي تم استخراجها تم التعرف عليها من قبل إحدى أمهات المفقودين، منتقدا تباطؤ السلطات الإيطالية في إجراء التحاليل الجينية لبقية الجثث، رغم المطالب المتعددة التي قدمتها العائلات للقنصلية الإيطالية، حتى أنهم لم يتلقوا أي رد بهذا الخصوص على حد قوله.
يضيف "القنصلية لا تحرك ساكنا، خاصة منذ الضجة التي خلفتها قضية الطفلة التونسية ذات الأربع سنوات.. نحن لا نريد شيئا سوى الحقيقة التي ستطفئ لهيب العائلة التي تنتظر الخبر اليقين".
يقول حمادي إن النوم لم يتسلل إلى جفونهم منذ معرفتهم بخبر اختفاء "طارق" في مركب الهجرة السرية الذي نزل عليهم كالصاعقة وحوّل حياتهم إلى كابوس مخيف لا يعلم أحد نهايته.
وتابع بتأثر: "طارق الذي كان يُدخل بغنائه الفرح والبهجة إلى قلوب الناس ويحيي أعراسهم أصبح اليوم سببا في حزنهم"، مشيرا إلى أن ابن أخته نموذج من مئات الشباب التونسي الذي دفعه ضنك العيش إلى ركوب الخطر أملا في تحسين ظروف عيش أسرته خاصة وأنه الابن البكر لعائلة عصف الفقر بها لسنوات وكان يتصور بأن الوضع في أوروبا أفضل وأن بإمكانه تحسين وضعه المعيشي".
"نريد حقيقة مصير أبنائنا"
في مدينة طبلبة وسط السواحل الشرقية للبلاد التونسية، تجتمع عائلة "رياض نويرة" الذي ركب أمواج البحر نحو الضفة الأخرى للبحر المتوسط رفقة 18 شخصا لا تربطه بهم سوى الصدفة، يتقاسمون معا وجع الغياب ومرارة الجهل بمصير ولدهم ذو العشرين عاما.
تنقل "حنان بن خليفة" خالة رياض التي ربته منذ كان رضيعا لسبوتنيك لوعة العائلة التي تنتظر خبرا عن ابنها الذي أبحر باتجاه إيطاليا فجر الخميس 22 سبتمبر/ أيلول 2022 ولم يظهر له أثر إلى اليوم.
تعلم هذه العائلة أن احتمال وفاة ابنها أكبر بكثير من احتمال بقاءه على قيد الحياة خاصة وأن البحر لفظ جثث مرافقيه واحدة تلو الأخرى، غير أنها لا تطلب من السلطات التونسية والإيطالية شيئا سوى إيجاد سبيل إلى الحقيقة.
تقول حنان: "انقطع أملنا في بقاء رياض حيّا منذ سمعنا بخبر العثور على قائد المركب ثم تتالت أخبار وفاة مرافقيه.. مطلبنا الوحيد هو أن تتحرك السلطات وتعمق البحث عن بقية الجثث".
وتؤكد حنان أنه منذ اختفاء رياض تعيش العائلة في دوامة من الأخبار الزائفة التي زادت من معاناتهم، مضيفة: "وردنا اتصال قبل أيام يفيد بأن رياض موجود على الأراضي الليبية صحبة مرافقيه في رحلة الهجرة، كدنا نقيم عرسا في بيتنا قبل أن تنزل علينا نتائج التحليل الجيني لجثث مرافقيه كالزلزال".
تأسف حنان على رياض الذي قصف البحر أحلامه وهو الذي بالكاد بلغ العشرين عاما وما زال يزاول الدراسة. تقول: "رياض هو وحيد عائلتنا ولم نقصر يوما في تلبية حاجياته، ولكن حلم الهجرة سكن في عقله خاصة وأنه يتابع قصص أترابه الذين ركبوا البحر ووصلوا إلى السواحل الإيطالية التي كان يعتبرونها بمثابة الجنة الضائعة ولكن سرعان ما ترتطم أحلامهم بالواقع المرير".
وتدفع ظروف الحياة الصعبة وشح مواطن العمل المئات من الشباب في تونس إلى ركوب الأمواج في اتجاه إيطاليا بحثا عن مستقبل أفضل، ويمثل التونسيون نحو 45 بالمائة من المهاجرين غير النظاميين الذين يصلون إلى السواحل الإيطالية.
وتقابل السلطات الإيطالية ارتفاع أعداد المهاجرين التونسيين إلى أراضيها بالترفيع في عمليات الترحيل الفوري إلى بلادهم، وسط ضرب لكل المواثيق الدولية والحقوقية ورغم تحذير عديد المنظمات الدولية، من وجود مخطط أوروبي لتحويل تونس إلى بلد لتوطين العابرين مقابل حصولها على تعويضات مالية لإدماجهم في المجتمع.