فالزيت النباتي والسكر والأرز والحليب والبيض ومنتوجات أخرى تحوّلت إلى عملة نادرة يصعب على المستهلكين التونسيين العثور عليها في المتاجر والمحلات الكبرى، في وقت عجزت فيه منظومات الإنتاج المحلي عن التخفيف من وطأة الارتفاع العالمي لأسعار الغذاء والطاقة الناجم عن الأزمة الروسية الأوكرانية.
وتونس دولة تستورد أكثر من 70 بالمائة من حاجياتها من الحبوب خاصة من روسيا وأوكرانيا، وما لا يقل عن 60 بالمائة من احتياجاتها من المحروقات، وهو ما تسبب في الضغط على مواردها من النقد الأجنبي في ظل الارتفاع الصاروخي لأسعار النفط عالميا الذي تجاوز الـ 100 دولار للبرميل، بينما اعتمدت تونس في موازنتها الحالية سعرا مرجعيا لا يتجاوز 75 دولارا.
ولجأت الحكومة التونسية في أكثر من مناسبة إلى استخدام مخزوناتها الإستراتيجية من المنتجات البترولية والغذائية لتجابه الطلب المحلي، بينما تسجل ماليتها العامة أعباءً إضافية ناهزت ملياريْ دولار نتيجة تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على أسعار الحبوب والطاقة.
موائد التونسيين في خطر
وتعاني جل منظومات الإنتاج الغذائي في تونس مثل الزيت والحليب والدواجن والحبوب من صعوبات عويصة تنذر بتهاويها، غذّتها التغيرات المناخية والارتفاع العالمي للأسعار وشح الموارد المالية للدولة التي لم تسدد مثلا مستحقات منظومة الحليب منذ أكثر من 16 شهرا، ومستحقات منظومة الطحين والسميد منذ 20 شهرا.
ويؤكد عضو نقابة المزارعين محمد رجايبية لـ "سبوتنيك"، أن أزمة الغذاء العالمية الناجمة عن الأزمة الروسية الأوكرانية خلّفت تداعيات مباشرة على موائد التونسيين، بعد أن تسببت في ارتفاع الأسعار وأثرت على الامدادات.
وقال "الدول الضعيفة وخاصة المستوردة للحبوب والطاقة تواجه اشكاليات كبيرة على مستوى توفير المواد الاستراتيجية"، مشيرا إلى أن اعتماد تونس على التوريد تسبب لها في خسائر إضافية واعتمادات بالعملة الصعبة وهي التي تعيش أصلا وضعا ماليا هشا.
ولفت رجايبية إلى أن الدولة التونسية اتخذت بعض الاجراءات لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الحبوب من خلال توسيع مساحات البذر والزيادة في أسعار قبول الحبوب لتشجيع الفلاحين على زراعتها.
وأشار إلى أن مخزون الحبوب يكفي لسد الحاجيات المحلية إلى حين دخول الصابة في الموسم المقبل، ولكن الأمر ليس مماثلا بالنسبة لبقية القطاعات.
منظومات الإنتاج تنهار
ويقر عضو نقابة المزارعين محمد رجايبية بأن أزمة الإنتاج امتدت إلى العديد من المنظومات الغذائية التي باتت مهددة، مثل الزراعات الكبرى والألبان الخضر واللحوم البيضاء والحمراء والخضراوات.
وقال: "هذه الأزمة تتطلب اتخاذ حلول عاجلة وإعادة النظر في منوال السياسة الفلاحية، في ظل عامليْن رئيسييْن هما التغيرات المناخية والاضطرابات العالمية التي سببتها جائحة كورونا ثم الأزمة الروسية الأوكرانية".
وأضاف:
"نحن اليوم أمام حرب ربما تطول وتتسع رقعتها، وبالتالي أصبح الغذاء اليوم هو السلاح اللأخضر بالنسبة لكل البلدان".
وأشار رجايبية إلى أن أزمة الإنتاج ستطال الخضر التي تعاني من معضلة شح المياه، مشيرا إلى أن العوامل المناخية غير الملائمة ستدفع المزارعين إلى تقليص المساحات المزروعة، وهو ما سيحدث نقصا في الإنتاج سيقابله ترفيع في الأسعار.
ولفت رجايبية إلى أن منظومة إنتاج الحليب دخلت هي الأخرى في دائرة الخطر، مشيرا مدفوعة بالارتفاع العالمي لأسعار الأعلاف التي فاقت طاقة الفلاحين ومربي الأبقار، وهو ما تسبب في فقدان الحليب.
ويعتبر الخبير في السياسة الفلاحية، فوزي الزياني، أن تونس طبّعت مع ندرة ونقص التزود بالمواد الأساسية اللذان طالا الزيت النباتي والسكر والقهوة والأرز والحليب، وهي مواد مدعومة من الدولة.
الحليب يختفي من الأسواق
ويحذّر منتجو الألبان في تونس من اختفاء طويل الأمد لمادة الحليب الذي تراجعت نسبة إنتاجه بنحو 40 بالمائة مقارنة بالسنوات الماضية، بحسب نقابة الفلاحين.
ويؤكد الزياني أن الإنتاج اليومي من الحليب تراجع من 2.2 مليون لتر قبل أربع سنوات، إلى 1.3 مليون لتر حاليا، في حين أن الطلب المحلي يناهز 1.8 مليون لتر في اليوم.
ويشتكي التونسيون منذ أيام من فقدان مادة الحليب من المتاجر والمحلات الكبرى. ويفسر الزياني هذا الاختفاء بوجود فجوة بنحو 500 ألف لتر من الحليب يوميا، مشيرا إلى أن الحكومة لجأت إلى استخدام المخزون الاستراتيجي من هذه المادة ولكنها لم تفلح في تغطية النقص.
ويقول الزياني إن هذا النقص في الإنتاج سيبقى قائما، في ظل استمرار تفريط مربي الأبقار في قطيعهم لفائدة القطر الجزائري. وأوضح "أصبح منتجو الألبان عاجزين تماما عن مجاراة ارتفاع أسعار الأعلاف التي تأثرت بدورها بالوضع العالمي، وهو ما كبدهم خسائر هامة تقدر بـ 500 مليم (نصف دينار) عن كل لتر من الحليب. في المقابل لم ترفع الدولة في ثمن اقتناء الحليب من المنتجين ولو بمليم واحد".
ويعتقد الزياني أن الحكومة اختارت عدم الترفيع في سعر قبول الحليب من المربين لأنها تخشى من ثورة المواطنين، مشيرا إلى أن هذا الوضع حوّل مربّي الأبقار إلى صندوق تعويض.
وشدد الزياني على ضرورة وقف هذا النزيف باتخاذ اجراءات عاجلة، تتمثل أساسا في تقديم منح ظرفية خصوصية لمربي الأبقار لمساعدتهم على الحفاظ على ما تبقى من القطيع، والزيادة في سعر قبول الحليب، ومضاعفة الأعلاف المدعمة، والاعتماد على الزراعات العلفية المحلية.
وتجد الحكومة التونسية صعوبات جديّة في مجابهة نقص التزود بالمواد الأساسية، في وقت بلغت فيه نسبة التضخم 9.1 بالمائة، وهي الأعلى منذ 30 عاما.