وعلى الرغم من أن الأمثلة السابقة قد تتقاطع مع بعض جوانب الحياة في روسيا، إلا أنه من الإنصاف إظهار الجانب الحقيقي الأعم لهذا البلد الذي يشكل جزءا عظيما من الحضارة الإنسانية.
سكارى على مدار الساعة
على الرغم من أن استهلاك الفرد الكحوليات في روسيا مرتفع بالمقارنة مع المواطنين في العالم العربي والإسلامي، إلا أنه ليس حتى من بين أعلى 10 مستهلكين للكحول في العالم.
ولا شك أن مشكلة الإدمان الكحولي يعاني منها بعض المواطنين في روسيا بنسبة معينة، ولكنها ليست بالقدر الذي تظهره الصور النمطية، حيث أن الروس عادة ما يشربون الخمور بكميات قليلة في بعض المناسبات كيوم رأس السنة وأعياد الميلاد وما شابه ذلك.
كما أن أحد الأسباب الرئيسية لشرب الروس للكحوليات هو الصقيع الذي تخف وطأته بشرب كمية يسيرة من الكحول.
لا بل أن الروس ينظرون لمدمني الكحول بعين الشفقة ولا يكنون لهذه الظاهرة بالتقدير، فمن أراد الاندماج بالمجتمع الروسي عليه تعلم العادات والتقاليد المحلية عوضا عن شرب زجاجة فودكا بين الفينة والأخرى.
هل يعادي الروس التبسم؟
يعتقد الكثيرون أن الروس "شعب بارد جاف"، وذلك بسبب ندرة تبسمهم، خصوصا للغرباء (بمعنى من هم ليسوا من دائرة معارفهم)، وذلك صحيح إلى حد ما، حيث أن الابتسامة في الثقافة الروسية شيء ثمين، وقد لا يشعرون بالارتياح بتبادلها مع أي كان، ولكن لذلك أسباب عديدة.
فقد مرت روسيا بمآس تاريخية كثيرة من حروب ومجاعات كبرى، حيث لا تخلو عائلة روسية من فقيد في الحرب الوطنية العظمى ضد النازية إذ قدمت البلاد أكثر من 26 مليون شهيدا في حربها ضد النازية، ولا زالت تحاربها إلى يومنا هذا في أوكرانيا، مما يجعل من العنصرية عاملا شبه منعدم في المجتمع الروسي الذي عانى الأمرين في الحرب ضد أربابها في برلين سابقا وكييف لاحقا.
فتاتان في متجر "غوم" على الساحة الحمراء، بعد رفع قيود كورونا المتعلقة بارتداء الكمامات في الأماكن العامة، موسكو، 15 مارس 2022
© Sputnik . Sergey Pyatakov
/ كما أن الجو يلعب دورا في ذلك إذ أن رتابة الحياة اليومية في روسيا مع غياب أشعة الشمس لأوقات طويلة يؤثر على المزاج العام، وللتأكد من ذلك عليك بالتنزه في أحد حدائق موسكو العامة في يوم صيفي مشمس ستلحظ خلاله أن الروس قد بانت نواجذهم بفعل التوق للجو الدافئ والتسمر.
وبالتالي، فمع تكوين علاقة صداقة مع زملائك الروس في الجامعة أو العمل ستلاحظ أنهم شعب مضياف ومتقبل لثقافة الآخر.
روسيا دولة شيوعية وقد لا أستطيع ممارسة شعائري الدينية
ورثت روسيا هذه السمعة عن الاتحاد السوفييتي الذي كان يحاول إضفاء الهوية اللادينية على الدولة، مع العلم أن الاتحاد السوفييتي لم يعلن مطلقا أن الدين محظور بشكل رسمي رغم منهجه الذي كان لا يشجع على التدين.
ولكن السواد الأعظم من أفراد الشعب الروسي وبكامل أطيافه المسيحية والإسلامية والبوذية وغيرها من المعتقدات يمارسون شعائرهم الدينية دون أية مضايقات، لا بل أن روسيا تشجع على التعددية والتسامح الدينيين، حيث رعت الدولة الروسية العديد من مشاريع تشييد المساجد والكنائس، ومن أهمها مسجد موسكو الكبير الذي يعتبر أكبر مساجد أوروبا.
مسجد موسكو الكبير
© Fotolia / Shchipkova Elena
المناخ الصعب وتأقلم السكان
لا شك أن مناخ العديد من أقاليم روسيا يتميز بالشتاء القاسي الذي يسوده البرد القارس وتعيب عنه أشعة الشمس عادة في الفترة الممتدة من نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني وبداية مارس/ آذار، لا سيما في المناطق الشمالية والشرقية.
ولكن أسلوب الحياة في المجتمع الروسي تكيف مع هذا الطقس، حيث أن البيوت الروسية والمرافق العامة ووسائل المواصلات مجهزة بأحدث طرق التدفئة، إضافة إلى نوعية الثياب في البلاد، حيث كثيرا ما تحمل الأحذية والمعاطف المبطنة بالفرو أو الصوف على علامة تبين درجة الحرارة التي يمكن مقاومتها أثناء ارتداء المنتج والتي قد تصل لـ50 درجة تحت الصفر.
ولكن روسيا دولة بحجم قارة، حيث أن مساحتها تزيد عن 17 مليون كم مربع، وتترامى أطرافها من سخالين وجزر الكوريل المحاذية لليابان شرقا، إلى كالينينغراد في قلب القارة الأوروبية غربا، حيث تتمتع روسيا بعدد من المناطق ذات الجو المعتدل، لا سيما في جمهوريات القوقاز والمناطق الجنوبية الغربية عموما كجزيرة القرم، إضافة إلى المناطق المحررة مؤخرا على بحر آزوف والبحر الأسود.
على ساحل البحر الأسود في شبه جزيرة القرم، الاستراحة على شواطئ غورزوف
© Sputnik . Vladimir Akimov
/ هل تعرض روسيا على الأجانب سوق عمل مغر؟
يعتبر الاغتراب تجربة صعبة في أي بلد كان، لاسيما إن كان المغترب جاهلا بلغة البلد المضيف، ومن الطبيعي مواجهة مصاعب في رحلة البحث عن عمل في روسيا، خصوصا في الأشهر الأولى، حيث أن الإلمام باللغة شرط أساسي في معظم الشواغر.
ومع ذلك توجد بعض فرص العمل للأجانب الذين لا يجيدون اللغة بالقدر الكافي، ويمكن البحث عن هذه الفرص في بعض المواقع والتطبيقات الإلكترونية، كمحرك بحث "يانديكس" الخاص بهذا الغرض وغيره من التطبيقات المشابهة.
وهيأت روسيا الجو المناسب للوافدين الجدد من أجل الاندماج في سوق العمل، كالسماح للطلاب الأجانب بالعمل رسميا كي لا يخضعون لظلم أرباب العمل الذين يشغلونهم بأجور بخسة.
وتوفر فرص العمل في روسيا عيشا كريما حيث يتناسب متوسط الأجور مع التكاليف المعيشية، إضافة لمنح القروض الميسرة على العقارات والمركبات وغيرها من السلع بعد التحصل على الجنسية.
كما فتحت روسيا باب الحصول على الجنسية على أسس عدة وبتسهيلات جمة عبر اتباع عدة خطوات ميسرة.
هل يعتبر تعلم اللغة الروسية شبه مستحيل؟
تعتبر اللغة الروسية من عائلة اللغات السلافية، ومن معايير تصنيف صعوبة اللغة هو اللغة الأم للراغب بالتعلم.
تعتبر اللغة الروسية سهلة التعلم لأولئك الذين يتحدثون الأوكرانية أو البيلاروسية، بسبب الكم الهائل من المفردات المشتركة، وكذلك الحال بالنسبة للعربي الذي يريد تعلم اللغة الأمهرية أو العبرية بسبب الاشتراك بالجذر السامي.
وبالتالي، فإن اللغة الروسية ليست بتلك الصعوبة، ولو كانت كذلك لما أبدع الطلاب العرب في بحوثهم الأكاديمية في اللغة الروسية، وكذالك الأمر بالنسبة للجاليات العربية في روسيا التي أتقن القسم الأكبر منها اللغة قراءة وكتابة ونطقا.
نسبة البيروقراطية في الجامعات والدوائر الحكومية
دأبت الحكومة الروسية إلى إدخال الأتمتة إلى نظم التعليم والقضاء والصحة وغيرهم من القطاعات الحيوية.
الوافد الأجنبي يستطيع كما المواطن الروسي التسجيل في الكليات الجامعية أو التقديم على تصريحات الإقامة والتأمين الصحي وكل الوثائق عن طريق المواقع الرسمية للمؤسسات، أو عن طريق تطبيقات الهواتف المحمولة، دون تجشم عناء الحضور إلى الدوائر الرسمية إلا في بعض الحالات الاستثنائية أو الضرورية.
وسجلت الجامعات الروسية أرقاما قياسية لافتة، حيث سجلت حضورها في قوائم الجامعات الرائدة حول العالم.
"النظرة الهوليودية" بين الواقع والخيال
حاولت إمبراطورية هوليود توجيه أعمالها ضد العديد من الشعوب كالعرب والروس والفرس وغيرهم من الشعوب التي تنظر لها الإدارة الأمريكية نظرة دونية.
ومن أهم النقاط المغلوطة التي شجعت هوليود على تأطير روسيا من خلالها هو "نشاط العصابات فيها، وكآبة شعبها وأبنيتها الرمادية المتهالكة"، وهذا ما فسر اندهاش السياح الذين حضروا كأس العالم في روسيا عام 2018، لاسيما السياح الأمريكيين والأوروبيين الذين صُدموا من جمال روسيا وتطورها العمراني وحالة الأمان السائد ولطافة شعبها، حيث أن التجربة هدمت ما شيدته هوليود بعقود خلال شهر مونديالي.
وختاما، تعتبر روسيا جزءا لا يتجزأ من الإرث الحضاري الإنساني الخالد، فهي أرض تشيخوف وتولستوي وبوشكين ولينين ويوري غاغارين، وأرض الجندي المجهول الذي ذاد عن حياض أصقاع الأرض من القوى الظلامية، ومما لا شك به أنها كأي بلد تحمل بين طياتها بعض السلبيات هنا أو العيوب هناك، ولكنها من دون شك أرقى وأجمل مما ترسمه هوليود ومن لف لفيفها.
المقال يعبر عن رأي كاتبه