وقرر حاكم التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب مساء الاثنين 19 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق العريض بعد ساعات من التحقيق معه فيما يعرف بـ "ملف التسفير".
وفي نوفمبر الماضي، استدعي رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي للتحقيق معه بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب في نفس القضية وأبقي في حالة سراح بعد استنطاقه أكثر من 12 ساعة.
وتؤكد هيئة الدفاع عن العريض أن سجنه قد يتواصل لأشهر إلى حين انتهاء التحقيقات في نفس الملف، وأن التحقيق يتعلق بالفترة التي تولى فيها وزارة الداخلية سنة 2011 ثم رئاسة الحكومة بين سنتيْ 2013 و2014.
ويعتبر ملف التسفير إلى بؤر التوتر من أخطر الملفات التي بقيت نهايتها مفتوحة وأسالت الكثير من الحبر في تونس، إلى جانب ملفات أخرى على غرار الاغتيالات السياسية والهجمات الإرهابية التي عرفتها البلاد بعد الثورة.
النهضة تتهم السلطة باستهداف قياداتها
قرار سجن رئيس الحكومة ووزير الداخلية سابقا ونائب رئيس حركة النهضة حاليا، علي العريض، أثار الكثير من الجدل. فبينما اعتبرته حركة النهضة استهدافا لقياداتها ومحاولة للتغطية على فشل السلطة الحالية، ترى أطراف أخرى أنه مؤشر على قرب حل هذا اللغز وكشف الحقائق التي بقيت مخفية لسنوات.
وفي الصدد، اعتبر القيادي البارز في حركة النهضة محمد القوماني في تصريح لـ"سبوتنيك"، أن سجن العريض هو "قرار سياسي جاء كرد فعل مباشر ومتشنج على الإخفاق الذي عرفته انتخابات 17 ديسمبر/ كانون الأول التي قاطعها 90 بالمائة من التونسيون".
وأشار القوماني إلى أن التحقيق في هذه القضية شمل المئات من المضنون فيهم وأن جزء كبيرا منهم يترددون على التحقيق ويتم الاستماع لهم ومن ثمة إطلاق سراحهم، متسائلا "لماذا علي العريض بالذات يتم إيقافه وبعد يومين فقط من إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية ورد الفعل الداخلي والخارجي على هذه المهزلة؟".
وطالب القوماني بإطلاق سراح العريض فورا، معتبرا أن سجنه يندرج ضمن مسار ممنهج لاستهداف السياسيين عبر توظيف القضاء، مذكرا بالحكم الصادر ضد الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي وعميد المحامين الأسبق عبد الرزاق الكيلاني.
وقال القوماني إن حركة النهضة أكدت مرات عديدة أن قياداتها بريئة تماما من هذا الموضوع وأن تطبيق قانون مكافحة الإرهاب الذي تم إقراره سنة 2015 على أحداث تتعلق بسنوات سابقة لوضع القانون (سنتي 2012 و2013) في غير محله.
واعتبر المتحدث أن محاكمة علي العريض هي محاكمة سياسية ولا تتضمن جرائم يترتب عنها عقاب جزائي، مشيرا إلى أن القانون الجزائي يعاقب على الجرائم الموثقة في أفعال، وأن المسؤولية الإدارية والسياسية لها آليات أخرى للمحاسبة مثل صناديق الاقتراع.
وتابع "لم يتضمن التحقيق استجوابا حول وقائع جريمة مادية، فالحوار الذي دار بين حاكم التحقيق وعلي العريض،على غرار ما دار مع راشد الغنوشي سابقا، يمكن أن يبث في التلفاز ويعرض كحوار حول القضايا المعقدة مثل ظاهرة التطرف والإرهاب وكيف يمكن معالجتها".
وأضاف "سنصمد وندافع على حقوقنا ولن نغير بوصلتنا، نحن نعتبر أن الشعب التونسي انتفض في صمت وسحب الوكالة من قيس سعيد الذي عليه أن يستقيل ويفسح المجال للبلاد كي تبحث عن آفاق أخرى لحل مشاكلها".
قرار متوقع بالنظر لفداحة الوثائق
على الجانب الآخر، ترى عضو لجنة التحقيق البرلمانية في شبكات التسفير سابقًا فاطمة المسدي، أن سجن علي العريض أمر متوقع بالنظر إلى فداحة المعطيات والوثائق المقدمة ضده في علاقة بملف التسفير إلى بؤر التوتر.
وقالت المسدي لـ "سبوتنيك": "كان من المفترض أن يتم إيقاف العريض وقيادات أمنية في وقت أبكر وأستغرب لماذا تم تأخير الاستنطاق إلى شهر ديسمبر".
وتتوقع المسدي أن تتوسع دائرة الإيقافات في الأيام القادمة وتشمل القيادات الأمنية المتورطة في هذا الملف، بحسب قولها. وأضافت "لا أتصور أن القيادات الأمنية نفذت دون تعليمات من وزير الداخلية آنذاك علي العريض".
وترى المسدي أن توصيف حركة النهضة سجن العريض بالقرار السياسي هو محاولة للهروب من الوقائع واستخفاف بعقول الناس، مشيرة إلى أن القضاء هو من يكيف الجرائم المرتكبة وأن حاكم التحقيق لن يُقدم على اتخاذ قرار السجن دون أن تكون بحوزته أدلة ملموسة.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، أعلنت المسدي أنها قدمت ملفا للقضاء به أكثر من 200 صفحة تتضمن "تقارير وشهادات ومقاطع فيديو ثابتة عن الجوانب الدعوي والأمن الموازي لحركة النهضة والتمويلات من الجمعيات الأجنبية والمشبوهة وعلاقة ملف التسفير بعمليات الاغتيالات والعمليات الإرهابية".
وقالت المسدي إن الملف الذي أودعته لدى القضاء يكشف وجود أمن موازي وتدخلات سياسية في القضاء، مؤكدة أن هذه المعطيات ستكون لها تداعيات كبيرة وستسفر عن إيقافات كبيرة في الأيام القادمة.
وأضافت "لقد تدخلت حركة النهضة في القضاء للتستر عن ملف التسفير عن طريق وكيل الجمهورية السابق الذي أخفى العديد من الملفات بما فيها ملف التسفير"، مشيرة إلى أن الملف سيتجه إلى كشف الحقيقة والمحاسبة الفعلية هذه المرة لأن القضاء تحرر من الضغط السياسي لقيادات من حركة النهضة، بحسب قولها.
ملف ينتظر المحاسبة
وملف التسفير إلى بؤر التوتر من بين الملفات الكبرى التي تنتظر أن تتم فيها المحاسبة، بحسب الناطق باسم التيار الشعبي محسن النابتي الذي قال لـ "سبوتنيك"، إن التعثر في كشف القضايا الكبرى مثل التسفير والإرهاب والفساد المالي والسياسي أثر سلبا على المسار السياسي برمته، وهو ما تجلى بوضوح في نسبة الإقبال في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وفقا لقوله.
وتابع "لقد أكدنا في أكثر من مرة لرئيس الجمهورية وللرأي العام أن الممر الإجباري لدولة القانون والمؤسسات في الجمهورية الجديدة هو المحاسبة، والمقصود منها ليس التشفي وإنما تنقية المناخ السياسي والاجتماعي ووضع حد لمسألة الإفلات من العقاب".
ويرى النابتي أن الجانب الأمني والقانوني في ملف التسفير حكر على القضاء وحده وأنه من البديهي أن تبحث هيئة الدفاع عن أي متهم على قرائن البراءة لموكلها، مضيفا، "ولكن المسؤولية السياسية لعلي العريض واضحة ولا لبس فيها، فالرجل كان وزيرا للداخلية في تلك الفترة ثم رئيسا للحكومة، بما يعني أنه كان يمتلك سلطة القرار".
وقال النابتي إن البلاد شهدت في عهدة العريض سواء كان وزيرا للداخلية أو رئيسا للحكومة أفظع الجرائم من تفاقم للإرهاب واغتيالات واختراق للأمن القومي ولوزارة الداخلية عن طريق الجهاز السري لحركة النهضة.
وأضاف: "كل ما نطلبه هو أن تفتح هذه الملفات دون خوف ودون أي حسابات لا مع الداخل ولا مع الخارج، لأن المسألة تتعلق بأرواح التونسيين وبالأمن القومي".
ويعتقد النابتي أن ملف التسفير مثل حجر الدومينو، إذا تداعى من جهة سيتداعى برمته، مشيرا إلى أن حل هذا الملف سيجر من ورائه العديد من الملفات الأخرى مثل الإرهاب والاغتيالات التي يقول إنها مترابطة فيما بينها.