الاقتصاد المصري في 2022… بداية مبشرة بالتعافي ونهاية مقلقة

نهاية عام 2022 في مصر لا تشبه بدايته على الصعيد الاقتصادي، فالآمال التي بدأ بها العام في التعافي من آثار "كوفيد 19" على اقتصاد مصر، سرعان ما تبددت في الربع الأول، مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، لينصرف عام 2022 مخلفاً تركة اقتصادية ثقيلة عنوانها الديون والتضخم وأزمة العملة الأجنبية.
Sputnik
القاهرة - سبوتنيك. مظاهر التعافي من الآثار الاقتصادية لوباء "كوفيد 19" كانت واضحة في مطلع عام 2022، فمعدلات التضخم تراجعت إلى المستوى المستهدف من البنك المركزي، وأصبحت من رقم واحد تحت 10 بالمئة، واحتياطي النقد الأجنبي عاد للتماسك بعد تآكله تحت ضغط الجائحة، واقترب مطلع العام من 41 مليار دولار. السياحة بدورها تعافت وعادت إلى معدلاتها قبل الجائحة، ومعدل النمو في الفترة من تموز/ يوليو إلى كانون الأول/ ديسمبر 2021 بلغ 9 بالمئة، في أعلى مستوى نمو منذ عشرين عاماً، أما سعر الصرف فأصبح مستقراً، حيث استمر الدولار أقل من 16 جنيه لفترة طويلة دون تذبذب، وفيما يتعلق بسعر الفائدة استطاع البنك المركزي أن يتبع سياسة تيسيرية ممتدة، انخفضت بسعر الفائدة إلى 8.25 بالمئة، ضمن سياسة تحفيز الاستثمارات.
المؤشرات الجيدة في مطلع العام دفعت المؤسسات المالية الدولية إلى رفع توقعات النمو للاقتصاد المصري، كما دفعتها إلى تحسين التصنيف الائتماني لمصر.
ولكن التفاؤل لم يستمر طويلاً، فقبل أن ينقضي الربع الأول من عام 2022، كانت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا تضع ظلالها على الاقتصاد المصري.
النتائج الأولى المباشرة للأزمة الأوكرانية، كانت طفرة أسعار الطاقة، وطفرة أسعار القمح والحبوب. وبالنسبة لمصر كانت الأزمة مركبة، فمصر مستورد صافي للبترول، وكل ارتفاع في أسعار البترول العالمية، ينعكس أولاً على الموازنة العامة للدولة، والتي كان سعر البترول مقدراً فيها بأقل من 65 دولاراً للبرميل، وثانياً تنعكس في تكلفة الإنتاج والنقل والمواصلات، وبالتالي معدل التضخم، ومن ناحية ثانية تعد مصر أكبر مستورد للقمح في العالم، كما أنها تحصل على الجانب الأكبر من وارداتها من القمح من روسيا وأوكرانيا.
البنك المركزي المصري يقرر أكبر زيادة في الفائدة منذ 2016 بنسبة 3%
كانت تلك هي نقطة التحول في مسار الاقتصاد المصري في 2022، فالمؤشرات الجيدة بدأت تتراجع لتحل محلها مؤشرات الأزمة. الخطوة الأولى كانت من جانب البنك المركزي، والذي قرر في اجتماع استثنائي في آذار/ مارس، رفع سعر الفائدة 2 بالمئة، واتباع سياسة صرف أكثر مرونة، كانت نتيجتها تراجع قيمة الجنيه بحوالي ربع قيمته.
خطوة البنك المركزي المصري كانت ضرورية لبدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض تمويلي، لسد عجز الموازنة، والتي أصبحت تعاني من عجز تمويلي بقيمة تقترب من 15 مليار دولار على ثلاث سنوات. وكان صندوق النقد الدولي يلح على الحكومة المصرية لاتباع سياسة صرف مرنة تسمح بالتعبير عن القيمة الحقيقية للعملة.
ولكن الخطوة نفسها كانت لها عواقبها، فتراجع سعر الجنيه، في بلد يعتمد على 60 بالمئة من احتياجاته على الواردات، سواء في الاستهلاك أو في مدخلات الإنتاج، أدى لموجة تضخمية، أزالت ما أنجز من قبل. ولكن الأسوأ أن الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي لم تكن كافية لامتصاص الأزمة، فرفع الفائدة في مصر، سبقه رفع الفائدة من قبل الفيدرالي الأمريكي، وهو السياسة التي ظلت متبعة في أمريكا طوال عام 2022، وتبعتها كل البنوك المركزية في البلدان المتقدمة والاقتصادات الناشئة، وهو ما أفقد السوق المصري أهم ميزاته التنافسية، والنتيجة أن الاستثمارات في أدوات الدين الدولارية في مصر (الأموال الساخنة) قد غادرت السوق، وهي التي قدرت بحوالي 20 مليار دولار خلال عام 2022.
البنك المركزي المصري يستثنى فئتين من قرارات توفير العملة الأجنبية بالخارج
هذه العوامل أدت بطبيعة الحال، لتراجع احتياطي النقد الأجنبي لأقل من 34 مليار دولار في وقت قياسي، ومع ارتفاع الأسعار العالمية تقلصت الفترة التي يمكن تغطيتها من الواردات الرئيسية بالاحتياطي، وهو ما انعكس في موجة تضخمية جديدة. وهو ما دفع البنك المركزي لمزيد من رفع سعر الفائدة، والمزيد أيضاً من تحرير سعر الصرف لإنجاز الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ففقد الجنيه بانتهاء العام أكثر من نصف قيمته، مع توقعات بانخفاض جديد مطلع العام المقبل. بدوره انعكس ذلك على التضخم، فحاول البنك المركزي مجدداً امتصاص الموجة التضخمية عبر رفع سعر الفائدة، والتي رفعها بالفعل خلال عام 2022 بواقع 8 بالمئة لتبلغ 1 بالمئة، ولكن أثرها على التضخم في ظل ارتفاع الأسعار العالمية وتراجع العملة المحلية، أصبح محدوداً للغاية، وقبل انقضاء عام 2022، كان معدل التضخم يقترب من 20 بالمئة ليصبح من أعلى المستويات خلال خمس سنوات.
تأثير الدومينو بدا واضحاً على الاقتصاد المصري في 2022 الذي كانت بدايته موحية بغير ذلك، فبدأت توقعات النمو الاقتصادي في مصر تتراجع، وحل محلها حديث الأزمة والتي عبر عنها بوضوح، دين خارجي تجاوز 155 مليار دولار، والاتفاق الذي أبرم مع صندوق النقد الدولي لم يمد مصر سوى بثلاثة مليارات دولار، على مدار أربع سنوات، ما يعني أن الخيارات لم تعد كثيرة أمام الاقتصاد المصري ومع استمرار الظرف الدولية دون تغيير، أصبح السؤال المطروح في نهاية عام 2022 ليس عن كيفية حل الأزمة الاقتصادية، ولكن عن كيفية إدارة تلك الأزمة بأقل خسائر ممكنة.
ولكن هناك سؤال آخر لا يمكن تجاوزه عن تحولات الاقتصاد المصري في 2022، وهو- هل تكفي الأزمة الأوكرانية، وآثارها على الاقتصاد العالمي لتفسير الأزمة، هذا ما تجيب عليه خبيرة الاقتصاد الكلي منى بدير، في حديثها الحصري لسبوتنيك، قائلة "هناك ظرف عالمي بالفعل، ولكن لا أعتقد أن الأوضاع العالمية وخاصة الأزمة الأوكرانية يمكنها تقديم تفسير كافي للأزمة الاقتصادية في مصر".
وأوضحت بدير "طبيعة الأزمة الاقتصادية الحالية في مصر مركبة، ولا يمكن إرجاعها لسبب واحد، هناك الأزمة الأوكرانية، وسياسات التشديد النقدي عالمياً، وبقايا آثار وباء كورونا، أسباب فاقمت من تأثير الأزمة، ولكن جذور الأزمة لها علاقة بمواطن الضعف في هيكل الاقتصاد المصري، بالتحديد في ميزان المعاملات الخارجية، وتحديداً في ميزان الحساب الجاري الذي تضمن ضعفاً مزمناً وهيكلياً، نتيجة ارتفاع فاتورة الواردات بشدة في السنوات الأخيرة، في الوقت الذي لم تستفد فيه الصادرات من تحرير سعر الصرف في 2016".
وأضافت بدير "كان هناك تأخر في عدد من الإصلاحات وعدد من السياسات التي كان من شأنها تدعيم وتحفيز للصادرات وللقطاع الخاص، لكنها لم تمنح الفرصة الكافية".
السعودية تمدد أجل وديعة في "المركزي المصري" بـ 5 مليارات دولار
وأشارت بدير "لا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نتجاهل، أنه بنهاية برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي بدأته مصر مع صندوق النقد الدولي نهاية عام 2016، جاء وباء كورونا بآثاره الاقتصادية ، وهو ما حرم مصر جزئياً من جني ثمار الإصلاح الاقتصادي، ولكن من ناحية أخرى، العجز المزمن في الميزان التجاري تزامن مع اعتماد مصر بشكل كبير، على تمويل العجز، سواء من مصادر غير مستدامة، مثل تدفقات الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين المحلية (الأموال الساخنة)، أو عبر الاستدانة الخارجية، والاثنان لم يؤديا إلى تحسن حقيقي".
وتابعت: "لدينا أكثر من أزمة أتت في وقت واحد، سياسة تشديد نقدي خارجية تؤدي لخروج الأموال الساخنة، وأزمة عالمية تؤدي لرفع الأسعار عالمياً، مع أزمة هيكلية في الاقتصاد متمثلة في اختلال الميزان الخارجي، يمكن القول أن الأزمات الواردة من الخارج كشفت الخلل في الداخل وفاقمت الأزمة الاقتصادية".
يرحل عام 2022 ولا ترحل آثاره، لا في العالم ولا في مصر، فنحو عام 2023 تتجه مصر بمعدلات تضخم تقترب من 20 بالمئة، مرشحة للزيادة، وعملة فقدت نصف قيمتها وديون تتجاوز 155 مليار دولار، ولكن يبقى الأسوأ أن الاقتصاد المصري يدخل العام الجديد بنفس الحلول القديمة التي لم تفك شفرة الأزمة.
مناقشة