جشع أم استثمار عادل... ما هي الأموال الساخنة ومن يتحكم بها ولماذا تشكل فخا للأمم؟

كانت "الأموال الساخنة" العنوان الرئيسي للأسواق الناشئة والنامية في عام 2022، وعلى عكس الحال في السنوات السابقة حيث كانت داعمة ومحفزة لهذه الاقتصادات، تسببت هذه الاستثمارات سريعة الحركة في "زلزال" العام الماضي.
Sputnik
على سبيل المثال، ساعدت التدفقات الهائلة لهذه الأموال بالعملة الأجنبية إلى أدوات الدين المصرية منذ أواخر عام 2016 في تعزيز قيمة الجنيه مقابل الدولار والحفاظ على استقرار سعر الصرف لسنوات، ما ترتب عليه هدوء في النشاط التجاري والاقتصادي للبلاد.
لكن الهروب السريع في بداية العام الماضي، تسبب في أزمة حادة للبلد العربي الأكثر اكتظاظا بالسكان، ترتب عليها وقف – شبه تام – لحركة الاستيراد وتوافر السلع، علاوة على اضطرار السلطات النقدية إلى خفض قيمة الجنيه مقابل الدولار. ارتفع الدولار بنحو 100% أمام الجنيه في أقل من عام.
مصر تعلن نهاية أزمة تأمين العملة الأجنبية وتحرير السلع المكدسة في الموانئ
في الأرجنتين التي تعاني أزمة أعمق ومستمرة منذ سنوات، حذر مسؤولون وخبراء من الاعتماد على الأموال الساخنة في الفترة المقبلة لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف وتوفير سيولة دولارية، فيما كانت دول مثل الفلبين أقل تأثرا في عام 2022 حيث شهدت تراجعا في تدفقات هذه الأموال لكنها ظلت تسجل تدفقات داخلة صافية.
لكن كيف لهذه الأموال أن تكون سببا في طفرة لأنشطة الاقتصادات أو انهيار بهذه السرعة الشديدة؟ ولماذا تسعى إليها بعض الدول رغم خطورة الاعتماد عليها لوقت طويل وما هي أبرز تجارب الدول في الاعتماد على هذا النوع من الاستثمار؟

ما هي الأموال الساخنة؟

الأموال الساخنة هي ببساطة مجموعات من الأموال بالعملة الأجنبية (غالبا الدولار) التي يحركها المستثمرون الدوليون بسرعة وبشكل منتظم بين الأسواق المالية، في محاولة للاستفادة من أعلى أسعار فائدة قصيرة الأجل متاحة.
هذا يعني أن الأموال الساخنة تنتقل باستمرار من البلدان ذات معدلات الفائدة المنخفضة إلى البلدان ذات المعدلات الأعلى. بمعنى أنه إذا كانت أسعار الفائدة على أدوات الديون قصيرة الأجل مرتفعة في بلد ما، فإن هذه الأموال ستندفع إليها لتحقيق الأرباح.
تجذب البنوك الأموال الساخنة إلى الاقتصاد من خلال تقديم شهادات إيداع قصيرة الأجل بمعدلات فائدة أعلى من المتوسط. لا تتعلق الأموال الساخنة فقط بعملات الدول المختلفة، ولكنها قد تشير أيضا إلى رأس المال المستثمر في الشركات المنافسة.

من يتحكم في هذه الأموال؟

بشكل أساسي، هي أموال يمتلكها مستثمرون دوليون، وبطبيعة الحال يحركونها عبر مؤسسات استثمار خاصة بهم وبيوت خبرة منوط بها إدارة ثرواتهم وتعظيمها، وعادة ما تركز هذه المؤسسات كما سبق الإشارة على تحقيق الربح السريع والمرتفع.
هذا يعني أنهم قد يوجهون هذه الأموال إلى الأسواق الناشئة وتحويلها إلى العملات المحلية، من أجل الاستثمار في أدوات الدين قصيرة الأجل حال كانت الفائدة عليها مجزية بالنسبة لهم، وبالتالي يحولون هذه الفوائد إلى الخارج مرة أخرى مع الاحتفاظ بأصل رأس المال المستثمر، ولذلك هي أحدى أشهر وسائل المضاربة الرامية لتحقيق الربح بأي وأقصر طريق.
في سياق عالمي، لا يمكن للأموال الساخنة أن تتدفق بين الاقتصادات إلا بعد إزالة الحواجز التجارية وإنشاء البنى التحتية المالية المتطورة. في ظل هذه الخلفية، يتدفق المال إلى مناطق النمو المرتفع التي توفر إمكانية تحقيق عوائد ضخمة.
44 مليار دولار من صندوق النقد الدولي للأرجنتين

كيف تؤثر على الاقتصادات؟ (الفوائد والمخاطر)

تؤثر هذه التحويلات المالية على سعر الصرف ومن المحتمل أن تؤثر على ميزان مدفوعات الدولة وبالتالي موقفها من توافر السيولة النقدية الأجنبية، والتي تعني في حال الوفرة مزيدا من الاستقرار التجاري والاقتصادي وثبات سعر الصرف، والعكس تماما في حال العجز.
في المثال المصري، عقب تخفيض قيمة الجنيه أمام الدولار في عام 2016، ليقفز سعر الصرف بأكثر من 100% فوق 19 جنيها من ما دون 9 جنيهات، ومع تقديم أسعار فائدة مرتفعة، ساعد ذلك في جذب تدفقات كبيرة من الأموال الساخنة إلى البلاد.
عند مرحلة ما في السنوات الماضية، كانت مصر البلد المفضل لاستثمارات الأموال الساخنة لأنها حظيت بأعلى معدل فائدة حقيقي (معدل الفائدة الرئيسي مطروحا من نسبة التضخم) في العالم.
تراجع سعر الصرف لاحقا إلى 15.70 جنيه للدولار، لكن الأهم أنه ظل مستقرا عند هذا الحد لسنوات، وهذا الاستقرار يعني انسيابية حركة الاستثمار والتجارة، إلى جانب شيء من اليقين فيما يتعلق ببناء التوقعات والخطط المستقبلية.
في حال قام البنك بتخفيض أسعار الفائدة، أو إذا قدمت مؤسسة مالية منافسة معدلات أعلى، يكون المستثمرون على استعداد لنقل أموال الأموال الساخنة إلى البنك الذي يقدم صفقة أفضل. وعموما تتدفق الأموال الساخنة خارج البلدان والقطاعات الاقتصادية ذات الأداء الضعيف.
هذا ما حدث في مصر بداية عام 2022، عندما بدأ الاحتياطي الفيدرالي في أمريكا برفع أسعار الفائدة لديه، وتزامن ذلك مع زيادة التضخم في مصر، وبالتالي أصبح السوق الأمريكي أكثر جاذبية وقل العائد الحقيقي للاستثمار في الجنيه، علاوة على زيادة المخاطر العالمية التي حفزت المستثمرين على التمسك بالدولار كملاذ آمن ضد الأخطار المالية.
في الأشهر الأولى القليلة من عام 2022، خرج من مصر ما يزيد على 22 مليار دولار من هذه الأموال الساخنة، ما ساهم بشكل كبير في شح السيولة الأجنبية وتصاعدت الضغوط على الجنيه الذي اضطرت البلاد للسماح بانخفاضه مرات عدة منذ مارس/ آذار العام الماضي ليبلغ الآن 29.70 أمام الدولار.
قال وزير المالية المصري، محمد معيط، إن الحكومة لم يعد بإمكانها الاعتماد على مشتريات الأجانب من سندات الخزانة لتمويل ميزانيتها، ويتعين عليها العمل على تعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر بدلا من ذلك.
بعد خفض قيمة الجنيه... مصر تقترب من نهاية أزمة العملة التي أربكت البلاد
من جانبه ذكر معيط في صيف العام الماضي: "الدرس الذي تعلمناه (هو) أنه لا يمكنك الاعتماد على هذا النوع من الاستثمار. إنه قادم فقط للحصول على عوائد عالية، وبمجرد حدوث صدمة يغادر البلاد. خلال أربع سنوات تعاملت مع ثلاث صدمات من هذه الأموال الساخنة".
غادرت نحو 15 مليار دولار البلاد خلال أزمة الأسواق الناشئة لعام 2018، وما يقرب من 20 مليار دولار مع اندلاع الوباء في عام 2020، ثم غادرت نحو 22 مليار دولار في 2022 مع رفع الفائدة في أمريكا والأزمة الأوكرانية. هذه التذبذبات التاريخية رغم أثرها السيئ فإنها تعكس قدرة البلاد على تجاوز أسوأ أزماتها.
ردد مسؤولون وخبراء في الأرجنتين المضطربة منذ سنوات تصريحات مماثلة أكدوا فيها خروج الأموال الساخنة من البلاد وتعلمها الدرس بعدم الاعتماد على هذا النوع المتقلب من الاستثمارات.
اقترب التضخم في الأرجنتين من 100%، وارتفع سعر الصرف من قرب 9 بيزو للدولار في 2015 إلى نحو 180 في الوقت الراهن وسجلت البلاد معدل فقر يقرب من 40%. اتفقت البلاد مع صندوق النقد الدولي على حزمة تمويل بقيمة 56 مليار دولار لإنقاذ اقتصاد البلاد.

مصر ليست المثال الوحيد؟

كان الاقتصاد الصيني مثالا واضحا على حالة المد والجذر الاقتصادي المصاحبة للأموال الساخنة. فمنذ مطلع القرن الجاري، أدى اقتصاد البلاد سريع النمو، المصحوب بارتفاع كبير في أسعار الأسهم الصينية، إلى جعل الصين واحدة من أكثر أسواق المال سخونة في التاريخ.
ومع ذلك، فإن تدفق الأموال إلى الصين سرعان ما عكس الاتجاه بعد انخفاض كبير في قيمة اليوان الصيني، إلى جانب تصحيح كبير في سوق الأسهم الصينية، بحسب موقع "إنفستوبيديا".
يقدر كبير محللي الاقتصاد الصيني في "رويال بنك أوف سكوتلاند"، لويس كويجس، أنه خلال الأشهر الستة القصيرة من سبتمبر/ أيلول 2014 إلى مارس/ آذار 2015، خسرت البلاد ما يقدر بنحو 300 مليار دولار من الأموال الساخنة.
الانعكاس الذي شهده سوق المال في الصين كان تاريخيا، فمن عام 2006 إلى عام 2014، تضاعفت احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية، مما أدى إلى تكوين رصيد قدره 4 تريليونات دولار عند مرحلة ما، وكان جزءا من الاستثمار الأجنبي طويل الأجل في الشركات الصينية.
لكن جزءا كبيرا جاء أيضا من الأموال الساخنة، عندما اشترى المستثمرون السندات ذات معدلات الفائدة الجذابة والأسهم ذات العوائد المرتفعة المحتملة. علاوة على ذلك، اقترض المستثمرون أكواما من المال في الصين، بأسعار رخيصة، من أجل شراء سندات ذات معدل فائدة أعلى من بلدان أخرى.
مع تفاقم ديونها... الولايات المتحدة على أعقاب أزمة قد تؤدي إلى انهيار اقتصادي مدمر
تباطأ تدفق النقد تباطأ إلى حد كبير في عام 2016، لأن أسعار الأسهم بلغت ذروتها لدرجة أنه لم يكن هناك سوى القليل من الارتفاع. بالإضافة إلى ذلك، منذ عام 2013، تسبب تقلب اليوان أيضا في عمليات تصفية واسعة النطاق للاستثمارات. خلال فترة الأشهر التسعة بين يونيو/ حزيران عام 2014 ومارس/ آذار 2015، تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي للبلاد بأكثر من 250 مليار دولار.
وقعت أحداث مماثلة في عام 2019، ووفقا لتقديرات معهد التمويل الدولي، سحبت أكثر من 60 مليار دولار من رأس المال من الاقتصاد الصيني بين مايو/ أيار ويونيو من ذلك العام، بسبب زيادة ضوابط رأس المال، بالإضافة إلى انخفاض قيمة اليوان.
لكن بالنظر إلى حجم الاقتصاد الصيني ووفرة الاحتياطيات النقدية في النهاية، وعلاوة على قوة العملاق الآسيوي في التجارة الدولية، كانت الأزمة أقل تهديدا للنشاط الاقتصادي للبلاد، وتقريبا لم تتسبب في تعطل النمو أو ارتفاع شاهق في الأسعار أو حتى انهيار قيمة العملة المحلية.
مناقشة