وعند قراءة التاريخ الحديث، عادة ما تلجأ بعض الدول في حروبها ونزاعتها إلى فرض حصار سواء كان بريا أو بحريا بهدف إلى إضعاف العدو وهو ما تطور أخيرا، ليصبح تحت مسمى "العقوبات الاقتصادية" التي يمكن أن تكون سلاحا فتاكا وأداة دبلوماسية شديدة التأثير.
وتكون العقوبات الاقتصادية من خلال رفض أي شكل من أشكال النشاط التجاري مع الدولة المستهدفة، ويمكن أيضا طردها من المنظمات الدولية ذات الأبعاد التجارية، وقف المساعدات الاقتصادية وعدم حصول الدولة على منح دولية أو قروض من المؤسسات الدولية لدعم الاقتصاد، والقيود المفروضة على الطيران، والتي تشمل حظر الطيران في الأجواء، منع السفر إلى تلك الدولة، منع الخطوط الجوية للدولة المُعاقَبة من الهبوط في مطارات الدول الأخرى، تعليق رحلات الطيران الى تلك الدولة.
وهنا نلقي الضوء على بعض الدول التي ضربتها أزمات إنسانية خانقة بسبب العقوبات الأمريكية الجائرة.
سوريا
خلفت العقوبات المتواصلة على سوريا منذ أكثر من 10 سنوات أثرا لا يمكن محوه. فتحت وطأة العقوبات الأمريكية، تشهد سوريا نقصا في الوقود وإمدادات الكهرباء، حيث لا تصل الكهرباء لبعض المناطق في البلاد إلا لساعتين يوميا، مما يضطر السوريين إلى حرق النفايات للتدفئة.
وبعد الزلزال، لا يمكن للمعدات الثقيلة الضرورية المشاركة في أعمال البحث والإنقاذ بشكل فعال بسبب نقص الوقود، مما يؤثر سلبا على جهود الإغاثة ونتائجها.
ولا شك أن العقوبات الأمريكية والغربية فاقمت ولا تزال الأزمة الإنسانية السورية، كما أضرت بحقوق الإنسان بحجة حمايتها. وأظهر الزلزال أن التلاعب السياسي للدولة الكبيرة فاقم الأزمات في المنطقة، وأن حل الأزمة السورية يكمن في التنسيق والجهود المشتركة للمجتمع الدولي.
الأسبوع الماضي، ضرب زلزال مدمر بقوة 7.8 درجة المنطقة الحدودية بين سوريا وتركيا مسفرا عن حصيلة وفيات تجاوزت 41 ألفا وإصابة عشرات الآلاف، ومنها وصل عدد القتلى في سوريا إلى 1414، والمصابين إلى 2357 شخصا، وتضرر مئات الآلاف من سكان العديد من محافظات شمال غربي البلاد.
وأظهرت بيانات صادرة عن الأمم المتحدة أنه حتى يناير/ كانون الثاني 2023 عانى 90% من سكان سوريا من الفقر المدقع، منهم 15.3 مليون نسمة بحاجة إلى مساعدات إنسانية. وفي المناطق المنكوبة بالزلزال شمال غربي البلاد، تشرّد 2.9 مليون نسمة ويعيش 1.7 مليون في مخيمات.
وكانت الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية قد فرضت منذ عام 2011 حزمات عقوبات على الحكومة السورية بحجة "انتهاك حقوق الإنسان" بعد اشتعال ما يسمى "الربيع العربي" في سوريا، شملت منع مواطنيها وشركاتها من التجارة والاستثمار في سوريا، واستيراد النفط الخام ومشتقاته منها.
وفي ديسمبر 2019، وقع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على قانون حماية المدنيين السوريين المعروف بـ"قانون قيصر"، ليوسع نطاق العقوبات المفروضة على سوريا لتشمل الأجانب والشركات الأجنبية.
لتفرض بذلك الولايات المتحدة ضغوطا مزدوجة اقتصاديا وسياسيا على الحكومة السورية، ما تسبب في إعاقة جهود إعادة الإعمار وتدهور الوضع الاقتصادية بشكل حاد في البلاد.
وفي مواجهة الأزمة السورية الراهنة، دعا المجتمع الدولي الولايات المتحدة والدول الغربية إلى رفع العقوبات أو تخفيفها على أقل تقدير.
وفي ظل ضغط الرأي العام الدولي، أعلنت الولايات المتحدة تخفيف العقوبات على سوريا بشكل مؤقت، والسماح للمنظمات المعنية بتوفير المساعدات لسوريا بعد الحصول على تصاريح، لمدة 180 يوما فقط.
إيران
تعاني إيران من بلوغ الأزمة الاقتصادية مستوى غير مسبوق، على خلفية العقوبات الأمريكية والتضخم وتدني العملة أمام الدولار، ما أفرز تداعيات خطيرة على مستوى المجتمع، وبات يُنذر بتفجر الوضع واندلاع تظاهرات.
مستوى الأزمة عكسه تصريح لحجة الله عبد المالكي وزير العمل والرعاية الاجتماعية، في تقرير إخباري على التلفزيون الرسمي لبلاده عن تراجع القوة الشرائية للعمال نتيجة الارتفاع الجنوني للأسعار، قائلاً: "حتى أرباب العمل وكبار المديرين التنفيذيين، وحتى نحن (الوزراء) لدينا مشاكل معيشية" بسبب الظروف الاقتصادية والتضخم المفروض على اقتصاد البلاد.
وتناولت صحيفة "ستاره صبح" في تقرير اقتصادي لها ظاهرة الفقر المتفاقم، وأشارت إلى تصريح رئيس لجنة التربية والتعليم في البرلمان الذي ذكر فيه أن ما يقارب 40 مليون إيراني باتوا اليوم في حاجة إلى تلقي مساعدات مالية عاجلة.
ولفتت الصحيفة إلى تزايد ظاهرة الانتحار بين الإيرانيين على خلفية الأزمة الاقتصادية وتداعيات جائحة كورونا.
وحسب مجلة "فورين أفيرز" الأمريكية، مع انخفاض قيمة العملة الإيرانية وارتفاع معدلات التضخم وتدهور القدرة الشرائية، نتيجة لتأثير العقوبات الاقتصادية على عائدات الحكومة من مبيعات النفط وقطع العلاقات التجارية الإيرانية مع العالم الخارجي، زاد معدلا التضخم والبطالة، مما أثر بالسلب على الدخول الحقيقية للأسر.
كما أدى فرض العقوبات الاقتصادية المتواصلة على إيران إلى ظهور مشكلات عدة داخل المجتمع الإيراني تنبع بشكل أساسي من انخفاض الشعور بالسعادة والرضا عن الحياة وظهور الكثير من القلق بشأن المستقبل، ولاسيما فيما يتعلق بالوضع المالي للأفراد داخل الأسر.
وبحسب التقرير، فإن الولايات المتحدة كانت تأمل أن تؤدي هذه الإجراءات إلى انتفاضة شعبية واسعة ضد الحكومة، لكن ذلك لم يحصل.
فنزويلا
قالت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، في تقرير لها إن العقوبات الاقتصادية الأمريكية على فنزويلا التي استهدفت تدمير صناعة النفط الفنزويلية والإطاحة بالحكومة الفنزويلية على مدار سنوات ساهمت بشكل كبير إلى تأجيج الكارثة الإنسانية في البلاد.
وأشارت المجلة في هذا السياق إلى "فرار أكثر من 7 ملايين شخص من البلاد" بسبب تدهور الأوضاع المعيشية وزيادة الفقر.
ولفتت المجلة إلى أن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما سعت إلى تقليص نفوذ فنزويلا في المنطقة. وفرضت عقوبات على المسؤولين الفنزويليين وضغطت على دول الكاريبي لتحويل وارداتها من المنتجات البترولية الفنزويلية بهدف تدمير الاقتصاد الفنزويلي.
وخلال السنوات الأربع التي قضاها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في منصبه، نفذت إدارته هجوما اقتصاديا كبيرا ضد فنزويلا بحسب "فورين بوليسي".
أولا، بدأت بفرض عقوبات اقتصادية على الشؤون المالية للبلاد في عام 2017، ثم تابعت بعقوبات اقتصادية خانقة ضد شركة النفط الحكومية في عام 2019.
ومع انهيار الاقتصاد الفنزويلي في مواجهة الحرب الاقتصادية لإدارة ترامب، حذر عدد من المحللين من العواقب الإنسانية. ووفقا للمجلة، قدرت إحدى الدراسات أن العقوبات الأمريكية أدت إلى مقتل أكثر من 40 ألف فنزويلي من 2017 إلى 2018.
كوريا الشمالية
تفرض الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية شديدة ضد بيونغ يانغ في محاولة لثنيها عن إجرائها تجارب نووية وصاروخية ولكن من الواضح أن هذه العقوبات قد أثرت بشكل سلبي على الأوضاع المعيشية للمواطنين.
ووفقاً لتقرير مؤشر الخطورة الذي أعده مشروع تقييم القدرات (ACAPS) ومقره جنيف، تواجه كوريا الشمالية مستوى "مرتفعا" من حدة الأزمات الإنسانية.
وذكر التقرير أن العقوبات الدولية والأمريكية قيدت استيراد كوريا الشمالية للسلع الإنسانية وأثرت على وصول الناس إلى المساعدات.
ويمثل هذا ثاني أعلى مستوى في مقياس تقييم الأزمة ذي المستويات الست. كما صنف التقرير كوريا الشمالية بين الدول التي تعاني من "قيود عالية" في وصول المساعدات الإنسانية.
وقال التقرير إن الوضع الإنساني في كوريا الشمالية، تحركه عوامل سياسية واقتصادية.
وأضاف "انعدام الأمن الغذائي المزمن ومحدودية الوصول إلى الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والمياه النظيفة، تركت أكثر من 10 ملايين شخص في حاجة إلى مساعدات إنسانية".
كوبا
تعاني كوبا منذ أكثر من 60 عاما من الحصار الاقتصادي الأمريكي عليها، والذي أثر بشكل كبير على ثرواتها في ظل غياب أي مؤشرات على إمكانية رفعه.
ورغم فشل العقوبات في إجبار هافانا على تبديل نهجها، إلا أنها ما زالت مفروضة بعد 6 عقود وتحملها السلطات الكوبية مسؤولية التسبب بأضرار لاقتصاد البلاد تصل قيمتها إلى نحو 150 مليار دولار.
وتعيش كوبا أسوأ أزمة اقتصادية طاحنة، إذ بلغ معدل التضخم 70% في ظل نقص شديد في الأغذية والأدوية فيما سدد وباء كوفيد ضربة موجعة لمصدر الدخل الأساسي، السياحة.
وبات اصطفاف السكان في طوابير طويلة للحصول على الأساسيات أمرا معهودا، فيما انخفضت واردات المواد الغذائية على خلفية تقلّص احتياطيات الحكومة.
وتحمل هافانا العقوبات المسؤولية عن جميع أزمات الجزيرة.
ورفعت السلطات على مدى أشهر شعار "الحصار فيروس أيضا"، فيما سيّرت قوافل تضم سيارات ودراجات هوائية ونارية لتجوب البلاد وتندد بالعقوبات.