وتعكس هذه العودة منحى معيشيا انكفائيا لما يصفه الكثير من السوريين بـ "سنوات الزمن الجميل"، كناية عما كانت عليه حياتهم ما قبل تدفق عشرات آلاف المسلحين الأجانب إلى بلدهم، أعادت معها جرّة المياه، والفانوس، وبابور الكاز (جهاز كان يستخدم قديما للطهي)، وأدوات أخرى كثيرة لم يكن لأكثر المتشائمين في سوريا أن يتوقع عودتها إلى حياته.
وهو يحاول جاهدا نكش الثقب المفتوح على خزان الكاز في بابورعتيق، يقول الحرفي يحيى نحاس لـ "سبوتنيك": "قبل 3 سنوات، أصبح هناك إقبال كبير على بابور الكاز"، في ترجمة زمنية عفوية لفترة دخول العقوبات الأمريكية القاسية على سوريا حيز التنفيذ، في حزيران/ يونيو عام 2020".
"بابور الكاز".. هجرة معاكسة للتراث السوري
© Sputnik . Suhaib Omaraya
من حيث يعمل في صيانة هذا النوع من الأدوات المنزلية ضمن ورشته المتواضعة في سوق النحاسين في حي العريان في حلب القديمة، يلقي الحرفي الملقب (أبو عبدو) بلائمة هذا التحول الدرامي وعودة بوابير الكاز إلى يوميات السوريين بعد عقود من تصنيفها كأداة تراثية، على "اسطوانة الغاز التي لا تكفي الاستهلاك المنزلي لأكثر من 20 إلى 25 يوما على أقصى تقدير"، في الوقت الذي يمكن للعائلة الواحدة الحصول على هذه الاسطوانة من المؤسسات الحكومية بسعر مدعوم مرة واحدة كل 3 أو 4 أشهر.
ويشرح الحرفي أبو عبدو بأن عمله يتركز حاليا على صيانة بوابير الكاز، مؤكدا أن هذا العمل ذو عائدية قليلة وهدفها الأساسي خدمة الناس الذين عادوا إلى استخدام هذه الأداة التي خرجت من الخدمة منتصف القرن الماضي، لأنهم يعانون أصلا من تدهور قدرتهم الشرائية.
المواطن عبد الرحمن قطاع، وبعد أن شرح لأبو عبدو المشكلة التي أصابت بابوره الذي عاود استخدامه كجهاز أساسي لإتمام الكثير من المهام المنزلية، أكد لـ "سبوتنيك" أن "عودته إلى هذه الأداة يعود إلى طول المدة التي يستهلكها دوره قبل استلام أسطوانة الغاز عبر البطاقة الذكية، وإلى غلائها الفاحش في السوق السوداء".
"بابور الكاز".. هجرة معاكسة للتراث السوري
© Sputnik . Suhaib Omaraya
ويحاول عبد الرحيم على مضض إيراد جوانب مضيئة لاستخدامه بابور "الآز" كما يلفظ باللهجة الحلبية: "تستطيع أن تتذكر كيف كان يعيش أهل أول (يقصد الأجداد)... كان في كل منزل أكثر من بابور... كانوا يعيشون على طاق البابور (يقصد: البابور وحده)".
الحرفي جمال دالاتي، الذي يمتلك ورشة صغيرة قريبة من ورشة الشاب نحاس، انتهى للتو من إصلاح أحد بوابير الكاز التي جاءته به سيدة حلبية راجية إصلاحه.
وبعد تلويحة من يديه علّه يبعد الدخان الأبيض الذي خلفه الاحتراق الأول غير الكامل للكاز في بابور الزبونة، يبدأ دالاتي بسرد ذكرياته الشخصية لـ "سبوتنيك": "منذ طفولتنا كانت أمهاتنا تدق البابور (ذراع يدوية تكثّف الضغط داخله تمهيدا لإشعاله) في مطبخ حوش (منزل) عربي، وتطهو عليه الطعام".
عند المساء، يأتي أبي من عمله، ويجلس في فناء الدار على بساطه، لتأتي أمي وتدق البابور، وتضع عليه إبريق الشاي ليشرب أبي وضيوفه من الرجال الكبارية (أي كبار الحي)، فيما النساء تجلس في الزاوية الأخرى من حديقة المنزل.
وفي لفتة تنبلج منها ذكرياته، يضيف الرجل السبعيني: "كان لدى أبي إبريق شينكو (شركة صينية قديمة لتصنيع الأجهزة الاستهلاكية)، كان يضعه على لبادة وفوقه طربوش (قماش من اللباد)... وعندما يسأله الخلق (الجيران): لماذا تفعل هذا يا أبو أحمد، فيجيب: لكي يختمر (أي يصبح مطهوا بشكل كامل)".
وبعد أن عدّل جلسته على كرسيه الخشبي ذو الأرجل القصيرة، أضاف دالاتي: "من 65 سنة شاهدنا أمهاتنا يطهون على البابور".
ويتذكر المهني الحلبي كيف تعلم تصليح البوابير منذ طفولته، خلال مراقبته لأحد المهنيين الذين يعملون في هذا المجال، قبل أن يفتتح محل الصيانة الخاص به.
كما كل المهنين، ثمة روابط غير مرئية تجذب الحرفي دالاتي إلى أحد البوابير التي اشتراها كقطعة تراثية في عام 1980: "اشتريته بـ 23 ليرة".
"بابور الكاز".. هجرة معاكسة للتراث السوري
© Sputnik . Suhaib Omaraya
وهو يصبّ كؤوس الشاي ترحيبا بزواره من "سبوتنيك"، يستعرض دالاتي بابوره بكثير من الحب المفعم بالذكريات.
يؤكد الحرفي الحلبي أنه يستعرض مزايا بابوره التراثي بشكل مستمر أمام تجّار سوق السليمانية (أحد أسواق حلب الرئيسية ويعنى بالتراثيات)، إلا أنه يرفض بيعه بشكل قطعي، قائلا: "لن أبيعه مهما عرضت عليّ من مال... أحب أن أتمعن فيه كل يوم... ولهذا لن أبيعه".