في تلك اللحظة التي انهمر فيها الدم طوفانا في ساحة العرض العسكري في الكلية الحربية في مدينة حمص السورية، حلّقت روح الطفل فوق جسد أخته للحظات، قبل أن تعاود أدراجها مدفوعة بالحنين والهلع على تالة... كيف يمكن لها أن ترحل ولم يعد لروح أخته، ذات الأعوام الخمسة، من عائلتها غيره في هذه الدنيا.
يتامى للمرة الثانية.. (ربيع وتالة) محاطين بأرواح عائلتهما جراء تفجيرات حمص
© Sputnik . Shams Molhem
خلال زيارة الطفل ربيع من قبل فريق "سبوتنيك"، حيث يرقد في أحد مشافي حمص، قال ربيع ذو الأعوام الثمانية: "فقدت أبي شهيدا قبل 6 سنوات في مطار "الشعيرات".
كان والد ربيع (ابراهيم عقل منصور)، ضابطا في الجيش العربي السوري، إلا أنه فقده، فجر السابع من نيسان عام 2017، خلال العدوان الأمريكي الإرهابي بعشرات صواريخ "توماهوك" على مطار "الشعيرات"، في ريف حمص الشرقي.
مذاك، عاش الطفلان يتيمي الأب، ربيع وأخته تالة، في كنف أخوالهما (أشقاء والدته)، كبرا معا كروح متحدة في جسدين، بعدما تصدى أخوالهما لرعايتهم مع أمهم، وبذل الحب في أرواحهم الغضة، ما أمكنهم ذلك.
حتى الساعة، لا يعلم ربيع ما هو حجم الخسارة التي رتبها الإرهاب على حياته، من الآن فصاعدا، لا يعلم شيئا عن جده وأخواله ممن ارتقوا خلال الهحوم الإرهابي، فيما يخفي عنه الأطباء والأقارب، خسارات أخرى قد تكون أشد مرارة.
مع الهجوم الإرهابي الذي استهدف الكلية الحربية في مدينة حمص، يوم الخميس الماضي، عادت الذاكرة المفعمة بالمرارة لتحفر عميقا في جسد الطفلين، أمهما التي جهد الأطباء على مدار، الأيام الثلاثة الماضية، لإخراجها من الغيبوبة ترقد اليوم في مشفى آخر بين الحياة والموت جراء إصابات بليغة في الصدر والدماغ.
قبل الهجوم الإرهابي، كانت السعادة تغمر ربيع وكأنه يقود آلة الزمن إلى حيث يحلم بأن يكون مثل أبيه ضابطا في الجيش، وأيضا مثل خاله الذي حضر جده وأخواله وخالاته، لحضور تخرجه برتبة "ملازم حربي".
يتامى للمرة الثانية.. (ربيع وتالة) محاطين بأرواح عائلتهما جراء تفجيرات حمص
© Sputnik . Shams Molhem
بحشرجة تتدفق من ذاكرته الحزينة عبر حنجرته المتعبة جراء العمليات الجراحية التي خضع لها، يقول ربيع لـ"سبوتنيك": "قتلوا أهلي،.. اليوم أصبحت أنا الأخ والأب والخال الوحيد لتالة، لن أتركها أبدًا.. هي لا تتذكر والدي، كان عمرها أربعة أشهر حين استشهاده.. أعلم أن عليّ حماية أختي الصغيرة .. حين وقع التفجير (يقصد الكلية الحربية)، أمسكت بيدها وسحبتها إلى حضني بقوة، كان وجهها شاحبًا جدًا من الخوف والرعب الذي أصاب الجميع".
جراء التفجير الإرهابي، دخل الطفل في غيبوبة ليستفيق بعدها في المشفى بعد سلسلة من العمليات الجراحية، عن تلك اللحظات، قال ربيع لـ"سبوتنيك": "حين صحوت، طلبت أن تبقى تالة معي في غرفة واحدة".
خضع ربيع لسلسلة من العمليات الجراحية لإخراج العشرات من شظايا الصواريخ، التي زرعها الإرهابيون في جسده، فقد أجزاء كبيرة من جهازه الهضمي إلى جانب إصابات بليغة في الأطراف السفلية.
في "ومضة بوهيمية"، أصبح ربيع الطفل، كهلا تداخله مشاعر الانتقام لحياته المسلوبة، قائلا لـ "سبوتنيك": "أتمنى أن يحدث مع المسلحين الذين قتلوا أهلي، مثلما حدث مع أطفال حمص، وأكثر.. حينها فقط تبرد نار الألم في قلبي".
يتامى للمرة الثانية.. (ربيع وتالة) محاطين بأرواح عائلتهما جراء تفجيرات حمص
© Sputnik . Shams Molhem
يواصل الطفل الذي ينحدر من قرية "قرمص" بريف مصياف، إحدى مدن ريف محافظة حماة الغربي، حديثه المأساة المركبة، التي طرأت على حياته، قائلا: "المجرمون قتلوا جدي وخالاتي وأخوالي الأربعة، رأيتهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة وأنا ممدد على الأرض .. أما والدتي فهي بين الحياة والموت في مشفى الباسل بحمص".
يحمد ربيع ربه لنجاة أخته (تالة) من الموت، بعدما فقد جميع أفراد عائلته، قائلا: "أشكر الله على وجودها في حياتي، ولكن أخاف عليها من المستقبل كثيرًا، فالإرهاب لا يفرق بين طفل وشاب ورجل كبير، ما حدث أكبر دليل على حقدهم الكبير على أطفال سوريا".
يتامى للمرة الثانية.. (ربيع وتالة) محاطين بأرواح عائلتهما جراء تفجيرات حمص
© Sputnik . Shams Molhem
اليوم، أصبح ربيع الأب والأخ والسند الوحيد لتالة الصغيرة، بطريقة ملهمة يمكن للمرء تلمس الرجولة في إدراكه لهذه الحقيقة.
وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من الحزن والغضب، يرفع ربيع الصغير يده التي تحولت إلى خارطة من الأنابيب الطبية، مودعا "سبوتنيك"، بإشارة النصر.. إنها الولادة السرمدية للرجال القادرين على دحر الإرهاب.