وتركت التغيرات المناخية وخاصة الجفاف وندرة المياه والارتفاع غير المسبوق لدرجة الحرارة آثارها العميقة على عمل النساء في هذه الواحة الواقعة في محافظة "قابس"، حيث النشاط الفلاحي هو النشاط الطاغي على هذه الجهة.
كما أُجبرت النساء على ترك مهنتهن التي عرفن بها على مر العقود، وهي زراعة الحناء التي تعرف بـ "الذهب الأحمر"، والحناء هي نبتة شوكية تَستخرج منها النساء مسحوقا يستخدمنه لتزيين الأكف وصبغ الشعر، وهي المادة التجميلية الأساسية في حفلات الزواج لدى العائلات التونسية من شمالها إلى جنوبها.
وبفعل انحباس الأمطار، تراجعت محاصيل هذه الواحة المعروفة أيضا بزراعة النخيل، وهو ما دفع بالعشرات من شبابها إلى مغادرتها إما باتجاه العاصمة أو خارج البلاد بحثا عن ما يؤمن لهم لقمة العيش.
نساء صامدات ضد تغير المناخ
وتسطّر النساء في هذه الواحة قصص صمود في وجه التغيرات المناخية، تقول سمية رزق الله وهي أصيلة منطقة شنني ورئيسة جمعية "هي الهدف" لـ "سبوتنيك": "هرب الشباب وبقيت النساء متمسكات بأرضهن".
وتؤكد سمية (38 سنة) أن نساء منطقة "شنني" هن الفئة الأكثر تأثرا بالتغيرات المناخية، نظرا لارتباط عملهن بالأرض التي أصابها الجفاف وأصبحت غير قادرة على إنتاج أنواع من المحاصيل الزراعية التي كانت تؤمن لهن لقمة العيش منذ عشرات السنين، على غرار "الطماطم" و"الحناء" و"الملوخية" (نبتة زهرية تستخدم أوراقها لإعداد طبق الملوخية).
وتضيف: "النساء هن الفئة الأكثر تأثرا بالظروف المناخية التي تزداد قسوة في هذه الواحة، ولكنهن أيضا الفئة الأكثر سعيا لإيجاد الحلول".
وتقود سمية مشروعا لتمكين نساء واحة "شنني" اقتصاديا، وتدربهن على التأقلم مع التغيرات المناخية التي تقول إنها أصبحت واقعا لا يمكن تجاهله، وتشجعهن على ابتكار حلول بديلة تتلاءم مع بيئتهن.
مخلفات النخيل.. "كنز" نساء الواحة
وجدت نساء شنني في مخلفات أشجار النخيل "كنزا" ينقذهن من براثن البطالة ويوفرن به مدخولا لعائلاتهن، فمن هذه المخلفات يصنعن المظلات والتحف والأثاث وأدوات الزينة.
تقول سمية: "أطنان من مخلفات النخيل يتم حرقها يوميا وتفرز انبعاثات تسهم في تلوث البيئة وتفاقم أزمة التغيرات المناخية، فكانت الفكرة هي أن نجد طرقا لتثمين هذه المخلفات وإيقاف عمليات الحرق".
تشرح بسمة التومي (54 سنة) لـ "سبوتنيك" مهمة نساء "شنني"، وتقول: "تتولى النساء جمع مخلفات النخيل من الغابات، ثم يقسمن الأدوار بينهن حسب براعتهن. فالعرجون (العنقود الذي يحمل التمر) نحوله إلى قطع للديكور أو سلال يوضع فيها الخبز".
وتابعت: "أما الكرنافة (أصول تبقى في جذع النخلة بعد قطع السعف) فنقوم برحيها حتى نتحصل على مادة تشبه الصلصال نشكلها لاحقا في شكل مجوهرات نسائية أو تحف للزينة".
وبالنسبة للسعف أو الجريدة (أوراق شجرة النخيل المتفرعة)، فتتولى النساء تحويله إلى أثاث أو مضلات ومراوح يدوية يتفنن في تزويقها برسومات وكتابات ترمز إلى جهتهن وتوثق انتمائهن لهذه الواحة.
نساء ملهمات
تقول سمية رزق الله إن فكرة تثمين مخلفات أشجار النخيل ألهمت نساء أخريات بادرن بإعادة تدوير الملابس والخرق البالية وتحويلها إلى نسيج يصنعن به سجادات بطرق يدوية.
وتضيف: "توجد دائما طريقة للابتكار وطريق لصنع فرص جديدة تتلاءم مع البيئة التي تنتمي إليها النساء".
وتؤكد سمية أن تجربة نساء شنني في تثمين مخلفات الواحة أثارت انتباه الناس الذين صاروا يأتون إلى منطقتهن للتعرف على ابتكاراتهن، مشيرة إلى أنهن تلقين مؤخرا طلبا لصنع أكبر سجاد من السعف في البلاد التونسية.
وترى سمية أن الهجرة لم تكن يوما الحل، مشددة على ضرورة أن يستثمر الجميع في الموارد المحلية لجهته وأن يبحث عن الحلول داخل بيئته وليس بعيدا عنها.
ولفتت سمية إلى أن الجميع يتحدث عن "مجابهة" التغيرات المناخية، في حين أن المسألة تتعلق في الأصل بـ "التكيف" معها والبحث عن بدائل.
وتشجع محدثتنا على العودة إلى الوسائل التقليدية في تخزين المياه، على غرار "المواجل" و"الفسقية" (منشأة لتخزين مياه الأمطار) و"النشعية" (طريقة تقليدية في ري الزراعات).
وتعاني تونس من شح فادح في المياه، حيث بلغت مرحلة الفقر المائي بعد أن تراجع نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 400 متر مكعب في السنة، وهو ما قاد السلطات إلى اتخاذ اجراءات على غرار تقسيط المياه ومضاعفة الرقابة على حفر الآبار وفق معطيات أعلنتها وزارة الفلاحة والموارد المائية.
ويحذر خبراء من أن سنة 2023 ستكون السنة الأكثر جفافا في تاريخ تونس، بسبب انحباس الأمطار وتراجع منسوب السدود إلى دون الـ 25% واستنزاف المياه الجوفية التي بلغت نسبة استغلالها 140%.