يسند ظهره إلى كرسيه "الزان"، يعبّ الرجل الستيني، المكنى بأبي محمد، رشفة أخرى من قهوته، متفكرا في قدرة الحياة على التوالد من العدم، فهذا العشب الأخضر المنبثق من باطن الدمار يثير تساؤلات عما إذا كان البشر قد ينبتون مجددا هنا، في وقت ما.
إلى الشمال من "قلعة حلب" التارخية ببضعة مئات من الأمتار، يقبع سوق الصاغة ممتدا إلى "ساحة الحطب" في حي "الجديدة"، وكلاهما شهدتا خلال سنين الحرب أشرس هجمات المجموعات الإرهابية للسيطرة عليهما، إلا أن الجيش السوري وحلفاءه تمكنوا من الاحتفاظ بهما كخط دفاع أخير عن القلعة الأثرية ووسط المدينة.
يعاود "بادنجكي" صب القهوة لزواره من "سبوتنيك"، مكملا حديثه بنظرة مواربة: "هذه النباتات الحضراء بتذكرني بالماضي... نحنا راحت علينا (يقصد ذهبت الأيام الجميلة)، لكن الجيل القادم -انشالله- سيكون في حال أفضل".
سامر بادنجكي.. مواطن حلبي يشبه مدينته
© Sputnik . Sohaib Emraya
من يعرف ما كان عليه "سوق الصاغة" قبيل 2011، سيعلم جيدا مقصد "بادنجكي" من تمنياته المشوبة بالحذر، وسيقف مشدوهًا أمام قدرة الحروب التي تشنها التنظيمات الإرهابية على تغيير سحنة الأمكنة والبشر على حد سواء.
لم ينتظر "بادنجكي" الحياة لتأتي، بل ذهب إليها محاولا القبض على مفاتيحها من جديد، وبرغم المآسي المتراكمة للحرب والحصار الأمريكي على وطنه، لملم ما بقي من متجره وبدأ حياته الجديدة من جذورها الأولية، واضعًا نقطة في آخر مأساته الملحمية، وافتتح متجره الذي يصدف أحيانا أن يحظى بزبون يبيعه شيئا من بضاعته.
سامر بادنجكي.. مواطن حلبي يشبه مدينته
© Sputnik . Sohaib Emraya
كل يوم، يندفع "بادنجكي" محملا بالحب والحزن في أرجاء المكان المقفر، لربما يحدث نفسه: "كان هنا أحياء وأحباء".. هذه الشهادة غير المؤرخة هي كل ما يمكن الحديث عنه اليوم عن فراغ يهيمن بأثقاله الرتيبة فوق هذه البقعة من أقدم مدن الشرق المأهولة، بعدما حولتها التنظيمات الإرهابية المسلحة إلى كتلة فوضوية متخمة بالدمار والقهر.
سامر بادنجكي.. مواطن حلبي يشبه مدينته
© Sputnik . Sohaib Emraya
من حيث يجلس على كرسيه المتواضع أمام متجره الأكثر تواضعًا، يواكب "بادنجكي" بعينيه أحد المارة النادرين أمام دكانه، مستجمعًا في وجدانه عقد من الألم، ففيما مضى، كان السوق قبلة للسياح من كل أنحاء العالم، سعيًا لاقتناء المصوغات الذهبية الشرقية الغاية في الروعة.. لقد تحول ركن أغنياء المدينة إلى باحة من بقايا الحجر والبشر.
يقول "بادنجكي": "عدت إلى متجري في سوق الصاغة لأعمل في (مصلحتي) بالأدوات المنزلية، كنت بارك (جالس) في البيت وكلي أمل بالله تعالى أن تتحرك (تتحسن) معنا الأوضاع أحسن من البركة في البيت".
سامر بادنجكي.. مواطن حلبي يشبه مدينته
© Sputnik . Sohaib Emraya
يتذكر الرجل الحلبي متجره أيام كان متخما بأحدث الأدوات المنزلية وتقنياتها المستوردة من أربع جهات العالم، اليوم بات بلا بضاعة سوى ما يعرضه على رفوف مرتجلة وضعها على الرصيف: بعضًا من "ليف الجلي" و"المكانس اليدوية" والجوارب وأشياء أخرى لربما يحتاجها أحد العائدين، فيشتريها.
يستعيد "بادنجكي" أخيلة الازدحام الذي كانت عليه "ساحة الحطب" القريبة من متجره، ويقول: "كانت العالم (الناس) كتيرة.. والسياح أيضا، الله كريم بترجع متل ما كانت".
سامر بادنجكي.. مواطن حلبي يشبه مدينته
© Sputnik . Sohaib Emraya
في هذه اللحظة يصدف أن يمر زبون ما على متجر "بادنجكي"، قد يمر وقت طويل قبل سؤال زبون آخر عن سلعة ما، لكن حكمته الفطرية يدفعه إلى اليقين بأن أحدا يجب أن يبدأ بفعل شيء في هذه البقية المتصحرة من سكانها، إذ لا يزال أكثر من 99% منهم بعيدين عنها.
ويضيف: "هناك أمل"، مستدركا: "مو هلق.. لقدام انشالله (في المستقبل).. لكن
سامر بادنجكي.. مواطن حلبي يشبه مدينته
© Sputnik . Sohaib Emraya
في أعماقه، يدرك "بادنجكي" بأنه لن يتسنى في حياته هذه رؤية سوقه وقد عاد مشتعلا بالبشر والزبائن، يكتفي اليوم باستعادتهم من ذاكرته، يفكر في جيرانه وأصدقائه من صاغة الذهب الأشهر في الشرق.. لقد انتهى كل شيء، لكن يجب أن يبدأ شيء آخر.
كل التفاصيل في حلب مرتبطة بالحرب: الفقر، الدمار، الألم.. حتى الآمال معلقة على انتهاء مظاهر الحرب والحصار الذي تضربه الولايات المتحدة الأمريكية وما يفعله جيشها من نهب للثروات النفطية الوطنية وغيرها.
يقول "بادنجكي": سورية معتادة على الحروب والزلازل (يقصد الحروب التي خاضتها ضد إسرائيل)، وانشالله بتنهض من بين الركام وبترجع من أول وجديد".
من بعيد، حيث الزمن والجغرافيا يتحدثان لغة مزيفة عن حقائق الحياة، يبدو للناظر بأن العودة إلى الأمكنة المتعبة من الحرب، أمر يمكن التعايش معه، إلا أن الأحياء هنا في أحياء حلب المدمرة، يرون الأمر وكأنه إطلاق حياة جديدة على كوكب تم اكتشافه للتو.
بطريقة ما، يشبه "بادنجكي" مدينته التي لطالما نهضت من ركام الحروب والنوائب وكيد الغزاة، لقد نجح في ابتكار الحياة من جديد في هذه البقعة أو الكوكب الذي يصر على الأمل والانتظار تحت ظلال الهواء الطلق الذي يملئ مساحات الزمن والذكريات، وبقليل من البضاعة المرتجلة، يمهد لإعادة مدينته إلى سحنتها القديمة التي تستحقها.