ضمن مساحة صغيرة تفوح منها رائحة التاريخ الحاضر أبدا، تعكس ورشة "المكيّس" تفاصيل مدينة جبلة الساحلية القديمة بكل تفاصيلها، وبما تحمله هوية المكان من أخيلة لحضارات البحر الأبيض المتوسط مشهدية أزلية لم تغيرها السنون، ولم تتفيأ بظلال الحداثة.
يقول غندور في حديث لوكالة"سبوتنيك": "لا أستطيع تخيل يوم يمر عليّ من دون أن أحضر إلى الورشة وأطمئن على العمل والشباب الذين يعملون هنا".
قضى الرجل الثمانيني جل حياته في صناعة الصابون، ومع الأيام باتت شيئا لا يمكن الاستغناء عنه كما الهواء الذي يتنفسه صدره.
ما أن تدخل ورشة الصابون اليدوي هذه، حتى تجدك مسافرا عبر الزمن لتعيش حكاية من حكايات تاريخ مدينة جبلة، لتتعرف على صناعة عريقة تحفر في ذاكرة الزمن، ببساطتها ومحافظتها على وسائلها اليدوية.
يقول "يحيى المكيّس"، صاحب الورشة، لـ"سبوتنيك": "ورثت هذه الصناعة عن أبي وجدي في هذا المكان العتيق الذي يعود عمره إلى 800 عاماً، تعاقبت عليه مراحل تاريخية عدّة، ورغم ذلك لم يطرأ عليه أي تغيير من ناحية الحداثة، إذ كنا حريصين على المحافظة على طرازه المعماري القديم الذي يحاكي أصالة مدينة جيلة القديمة المصنفة كأحد الأماكن التراثية".
بطرق بسيطة نأت بنفسها عن التطور الصناعي والمكنّنة، لا تزال ورشة صابون "المكيّس"، تحافظ على الأصالة التي توارثها الأبناء عن الآباء والأجداد، ولاتزال حتى اليوم تشكّل علامة مسجلة في ذاكرة أهالي اللاذقية عموما.
ثمة علاقة مركبة تربط صاحب معمل الصابون في موقعه الأثري، فهو مهندس معماري أساسا، كما أنه باب رزق له ولجميع العاملين فيه، يقول المكيّس: "منذ عام 1942، بدأت عائلتنا بصناعة الصابون الذي حمل لقب العائلة "المكيّس" والذي أصبح عبر السنوات علامة تجارية عند أهالي المحافظة الذين يفضلون استخدامه، رغم وجود أنواع كثيرة أخرى"، مشيراً إلى أن طريقة الصناعة البسيطة اليدوية وجودتها هو الذي ضمن له الاستمرارية منذ الأربعينيات وحتى يومنا هذا.
وأضاف المكيّس: "رغم الصعوبات الناجمة عن الحصار والعقوبات، وعدم توفر اللوازم الضرورية في جميع الأوقات، إلا أننا مستمرون بالعمل من دون توقف، لأنها تشكّل مصدر الرزق الوحيد لعاملين في الورشة، ناهيك عن حرصنا بالمحافظة على هذه الصناعة من الاندثار، خاصة أنها تعتبر تراثاً من تراث المدينة القديمة".
وحسب المكيّس، رغم تطوّر الصناعات ودخول المكنّنة في الثمانينيات والتسعينيات، إلا أننا لم ندخل ذلك إلى صناعتنا التي حافظت على طابعها اليدوي البسيط ضمن الامكانيات المتوفرة لدينا، إذ حافظنا على الطابع القديم الذي يعد جزء من صناعتنا نحن، وليس من صناعة الصابون بشكل عام، سواء من ناحية المواد المستخدمة مع ادخال بعض الاضافات كالزيوت والملونات والمطريات، أو من خلال المحافظة على الطابع التراثي للمكان الذي يحاكي المدينة كجزء من هويتها.
وتابع المكيّس: "في المرحلة التالية نضيف للصابون مواد ملونة كالعطور، المطريات، الملونات، وذلك يختلف حسب الصابون ونوعية استخداماته".
وأشار المكيّس إلى أن إنتاجهم من الصابون ليس كبيراً بسبب قلّة المساحة وضعف الامكانيات المتوفرة، وأضاف: "نحن لسنا صناعيين وإنما حرفيين امتهنا صناعة الصابون القديم التراثي الذي لم يعرف طريقه للحداثة والمكننة، فرغم أنه كل يوم نقوم بطبخ الصابون إلا أنها تحتاج للوقت حتى تصبح جاهزة للبيع، إذ تتراوح مدة صناعة كل "طبخة" بين 2-3 شهرا"ً.
وبيّن المكيّس أن قلة الإنتاج يجعل الصابون يباع في أسواق اللاذقية فقط، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن هناك الكثير من زوار المحافظة يسألون عن الصابون كونهم سمعوا عنه من ابناء المحافظة اللاذقية، أو قاموا باستخدامه.