وبدت مظاهر احتفاء التونسيين بهذا الشهر باهتة هذا العام خلافا لسنوات مضت، حيث دئبت العائلات على الاستعداد له بتخزين حاجياتها من المواد الغذائية التي تؤثث بها موائد الإفطار، فضلا عن شراء مواد الزينة وغيرها.
وبصرف النظر عن كونه شعيرة دينية وروحية توحّد الدول المسلمة، فإن شهر رمضان معروف بطابعه الاستهلاكي، حيث ترتفع فيه نسبة الاستهلاك بـ 34%، بحسب دراسة أنجزها المعهد الوطني للإحصاء في تونس (مؤسسة رسمية).
"لم نعد قادرين على ملئ قفافنا"
في سوق "سيدي البحري" في قلب العاصمة التونسية، لا يتوقف هتاف الباعة الباحثين عن إنعاش تجارتهم التي أصابها الركود، ولا تهدأ حركة المارة الذين يسعون إلى شراء ما تسمح لهم به طاقتهم الشرائية التي أنهكها الارتفاع المتواصل لمعدلات التضخم.
تستخدم منية، وهي عاملة بمصنع نسيج، عبارة تونسية لوصف هذا الاكتظاظ، فتقول: "كثرة بلا بركة"، مشيرة إلى أن جل قفاف (سلال) التونسيين تعود فارغة من المواد الغذائية الأساسية التي يتواصل فقدانها في الأسواق، خلافا لتأكيدات وزارة التجارة على توفرها قبل حلول شهر رمضان.
وتضيف لـ "سبوتنيك": "لم نعد قادرين على ملأ قفافنا في الأيام العادية فما بالك بشهر رمضان الذي ترتفع فيه الأسعار في جميع المواد وخاصة منها اللحوم الحمراء والبيضاء والأسماك".
بدورها، تشتكي "سامية، من طوابير الانتظار التي لم تعد مقتصرة على المخابز، بفعل تواصل فقدان المواد الأساسية، مشيرة إلى أنها تقضي يوم راحتها في البحث عما وصفته بالعملة النادرة، من دقيق وطحين وسكر وحليب وخبز وزيت.
يقف منجي في قلب السوق لبيع أكياس بلاستيكية لا يتجاوز ثمن الواحد منها 200 مليم، ويقول لـ "سبوتنيك" إنه لا يجني من عمله البسيط سوى 10 دنانير (حوالي 3 دولارات) في اليوم على أقصى تقدير.
وتساءل: "ماذا يمكن أن تفعل 10 دنانير في وقتنا هذا؟ بالكاد أتمكن من شراء قهوة وبضعة سجائر والقليل من الخضر، أما اللحوم فهي حلم بعيد المنال".
ويؤكد منجي أن "الزوالي"، وهي كلمة محلية تطلق على محدودي الدخل، لم يعد قادرا على مجابهة لهيب الأسعار مهما فعل"، مشيرا إلى أن المواد الأساسية وإن توفرت فإنه لا يتمكن من الحصول عليها.
وتقول سعاد إنها ستستغني عن عاداتها الغذائية التي دأبت عليها في شهر رمضان وستكتفي بما هو أساسي حتى تتمكن من مجاراة غلاء الأسعار. وأضافت في حديثها لـ "سبوتنيك": "لقد أنفقت اليوم 50 دينارا (حوالي 16 دولارا) في شراء بضع كيلوغرامات من الخضر وبعضا من المواد الغذائية، دون أن أتمكن من شراء اللحم الذي وصل سعره إلى 45 دينارا للكيلوغرام الواحد".
ارتفاع الأسعار يغير عادات التونسيين
ويؤثر غلاء المعيشة وندرة المواد الأساسية على تقاليد التونسيين وعاداتهم الغذائية المتوارثة في شهر رمضان الذي تعوّدت فيه العائلات على طبخ أصناف متنوعة من الأطعمة، بحسب رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك لطفي الرياحي.
ويقول الرياحي لـ "سبوتنيك"، إن القدرة الشرائية للتونسيين تدهورت بشكل غير مسبوق، بفعل ارتفاع معدلات التضخم التي قفزت إلى 7.5 بالمائة خلال شهر فبراير 2024، مقارنة بـ 5.8 بالمائة في نفس الفترة من سنة 2020.
ويضيف: "لم يعد غلاء الأسعار خافيا على أحد، والطبقات الفقيرة لم تعد قادرة على اللحاق بجنون الأسعار في عدد من المواد الغذائية، على غرار اللحوم".
ويرى الرياحي أن هذا الوضع يتطلب حزمة جديدة من الإجراءات لتعديل الكفة، مشيرا إلى أن الإعانات التي توزّعها الجهات الرسمية غير كافية خاصة بالنسبة للعائلات المعوزة التي ترزح تحت وطأة الفقر والخصاصة وارتفاع الأسعار.
وقال الرياحي إن كلفة الحياة ما تزال مرتفعة جدا مقارنة بما تقدمه الدولة، مشيرا إلى أن بعض المواد الأساسية لا تزال مفقودة في الأسواق رغم تأكيدات وزارة التجارة على توفرها تماشيا مع حاجيات التونسيين الاستهلاكية خلال شهر رمضان.
ولفت المتحدث إلى أن التونسيين يساهمون أحيانا في اختفاء المواد الأساسية بفعل الاقبال المكثف على الشراءات و"اللهفة" التي تحوّلت إلى سلوك رسمي تنتهجه العديد من العائلات التونسية في شهر الصيام.
ودعا الرياحي التونسيين إلى الابتعاد عن هذه السلوكات التي تفاقم أزمة فقدان بعض المواد الأساسية وتجنب التبذير.
وكشفت دراسة سابقة أعدها المعهد الوطني للاستهلاك أن ثلث ما تطبخه العائلات التونسية خلال شهر رمضان يُلقى في القمامة، من بينها 900 ألف رغيف خبز يوميا.
إجراءات حكومية استثنائية
على الجهة المقابلة، تسعى الجهات الرسمية في تونس إلى امتصاص هذه الصعوبات، من خلال اتخاذ حزمة من الإجراءات قصد التحكم في الأسعار وتزويد السوق بالمواد الغذائية الضرورية.
وفي تصريح لـ "سبوتنيك"، قال المدير العام بوزارة التجارة حسام الدين التويتي إن الوزارة تسعى قدر الإمكان إلى تلبية حاجيات التونسيين حتى يتسنى لهم التمتع بشهر رمضان وممارسة عاداتهم الغذائية المتوارثة.
وأضاف: "هذه الإجراءات تشمل التخفيض في أسعار 87 منتوجا من المنتوجات التي تباع في المساحات التجارية بنسبة تصل إلى 34 بالمائة، فضلا عن تسقيف أسعار الدواجن بـ 8490 مليم للكيلوغرام، ولحوم الضأن بـ 32.8 دينارا، ولحوم الأبقار بـ 31 دينارا".
وقال التويتي إن الوزارة باشرت بتفعيل برنامج للرقابة بمشاركة وزارة الداخلية من أجل التصدي لممارسات الاحتكار والمضاربة التي تنتشر في شهر رمضان والقطع مع التلاعب بالأسعار.
ويؤكد المسؤول بوزارة التجارة أن الجهات الرسمية اتخذت جميع الإجراءات والاحتياطات المطلوبة لتجنب تسجيل نقص في التزود بالمواد الأساسية، معتبرا أن الوضع بات "مطمئنا". ودعا التونسيين إلى التعاون بدورهم في إنجاح هذا المجهود من خلال تجنب اللهفة والتبذير.
وبيّن التويتي أن الوزارة ستتدخل بشكل حيني في حال تم تسجيل نقص في إحدى المواد الاستهلاكية خلال شهر رمضان، وذلك في ظرف لا يتجاوز 48 ساعة من تاريخ الإبلاغ عنه.
ولفت إلى أن الهياكل الوزارية المعنية بادرت بتأمين بعض عمليات التوريد لتأمين الاحتياجات الاستهلاكية الإضافية للتونسيين خلال شهر رمضان، على غرار لحوم الدواجن والخضر والغلال والسكر والحبوب.
وقبل أيام، أعلنت الحكومة التونسية، خلال مجلس وزاري مضيّق خصص لمناقشة برنامج عمل الوزارات استعدادا لشهر رمضان، عن ترفيع منحة العائلات المعوزة لفائدة 340 ألف عائلة، بمبلغ جملي يساوي 20.4 مليون دينار (6.5 مليون دولار)، مع الترفيع في تكلفة قفة رمضان للعائلات محدودة الدخل غير المنتفعة بهذه المنحة.
وتوسعت قاعدة العائلات المعوزة في تونس لتشمل حوالي مليون عائلة، مقارنة بـ 310 ألف عائلة في 2010، في وقت بلغت فيه نسبة الفقر 20% من مجموع سكان تونس. بحسب إحصائيات رسمية.