"دلة مزعل"... سفيرة التراث السوري في متحف "اللوفر".. صور وفيديو
ينهال الحاج، علي مزعل، بالضرب بمطرقته المدببة على قطعة نحاس، في سلسلة من الضربات الرتيبة والطويلة، لتفضي في نهاية المطاف إلى تشكل دلة القهوة العربية.
Sputnik"قطعة النحاس، لا تلبث أن تلتف حول نفسها شيئا فشيئا، قبل أن تتخذ شكل دلة القهوة العربية دون أي عمليات لحام أو إضافة"، هكذا يختصر الحاج مزعل، وصف حرفته التي ورثها عن أجداده.
منذ مئات السنين، امتهنت عائلة مزعل، التي تنحدر من محافظة دير الزور شرقي سوريا، صنع دلال القهوة العربية، التي فاقت شهرتها الآفاق، فأصبحت "دلة مزعل" كما تكنى، الدلال التي تصنعها العائلة، علامة نفيسة معروفة يقتنيها شيوخ القبائل العربية، كما يعرض متحف "اللوفر" في العاصمة الفرنسية باريس، مجموعة منها صنعها مزعل، الجد الأكبر للعائلة.
إبان الهجوم الواسع الذي شنته المجموعات الإرهابية المسلحة على مدينته، خلال السنوات الأولى من الحرب على سوريا، نزح الحاج مزعل مع عائلته من مدينته دير الزور.
على عجل، غادر الحاج مزعل منزله ومصنعه الصغير المدمرين، جمع ما استطاع حمله من أدوات حرفية صغيرة، متجها نحو المناطق الآمنة في دمشق، ليبدأ حياته الجديدة من نقطة الصفر في ورشة صغيرة اتخذها على أطراف العاصمة السورية.
لم تكن البداية من جديد سهلة على الحاج مزعل، إذ أن القسم الأكبر من أدوات عمله ضاعت أو نُهبت، ناهيك عن فقدانه بيئة السوق القبائلي الذي تعد موطنا لمنتجاته، ومع الأيام أصبحت الأمور أكتر تعقيدا، إذ لطالما كانت "دلة القهوة العربية" إحدى المقتنيات التقليدية التي يكاد لا يخلو منها منزل في سوريا، قبل أن يطيح تردي القدرة المعيشية نتيجة الحصار والحرب بهذا التقليد، وما يعنيه ذلك من تقلص في تسويق منتجه بعدما أصبح من الكماليات.
وقال الحاج مزعل لـ"سبوتنيك":
ورثت المهنة عن أجدادي، لقد عملوا بها منذ 250 عاماً، ورغم انحسار مهنة صناعة النحاس وتحول الأدوات النحاسية من أدوات منزلية تملأ البيوت، إلى أدوات تعلّق على رفوف المحلات المختصة ببيع الأدوات التراثية، إلا انني ما زلت منكبا على المهنة التي أحبها.
يعتمد الحاج مزعل، الذي فضّل تعلم حرفة أجداده على عمله كأستاذ للغة العربية، النحاس الأحمر حصرا لتصنيع دلاله، وهو أحد أجود أنواع النحاس، مفسرا ذلك بأنه "يمنحنا مرونة في العمل الذي يتطلب هذه الخاصية، حيث يخضع صنع الدلة إلى نحو40 عملية جمع، يلي كل منها عملية تجمير في كل مرة، لنصل إلى مرحلة "خصر" الدلة، ثم تأتي عملية "الدعبلة" و"اللف" ومن ثم "السحق" فالجلي بمواد خاصة للتخلص من الشوائب، لتبدأ بعدها عملية "تطريق الدلة"، وصناعة وتركيب الغطاء العلوي الذي يتألف من قطعتين الصحن والغطاء الفوقي".
صانع الدلال ذي الـ75 عاماً، تعلم مهنة آبائه منذ سنين عمره الأولى، يضيف بالقول:
عشت أجواء هذه المهنة وتعلمتها، ينتقدني البعض لاستمراري بها على الرغم من أرباحها التجارية الضئيلة هذه الأيام قياسا بالمهن الأخرى، ولكن، الحمد لله الحالة مستورة، وأنا راض عن العائد منها، خاصة أن منتجاتي اليدوية من دلال القهوة المرة تصدر حاليا لدول الخليج العربي والسعودية ودول أوروبية، وهي مطلوبة هناك مثلما هي مطلوبة في البادية السورية.
ويتمتع الحاج مزعل بخبرة في صناعة جميع الأواني النحاسية، لكنه فضّل صناعة دلال القهوة العربية، التي تخصص بها جده مزعل، مؤكدا أنه "أول من عمل بهذه المهنة في ديرالزور، كلها"، بحسب قوله.
قبل جدي كانت تأتي الدِلال من تركيا أو بغداد، وقد لاحظ جدي أنها مؤلفة من أكثر من قطعة ما يؤدي إلى تفككها أحياناً عند تعريضها للحرارة، هذا غير الناحية الجمالية، وهنا فكر جدي بصناعة الدلة من قطعة واحدة وبدأ بتصميم الأدوات المناسبة التي تساعده على إنجاز هذه الخطوة، وتم تنفيذ هذه التصاميم عند الحدادين بإشرافه.
ويستخدم الحاج مزعل أدوات كثيرة في مهنته، التي تحتاج إلى 15 سنداناً مختلفاً لطرق النحاس، ناهيك عن المطارق المتعددة الأشكال والأحجام، وفقا لمراحل استخدامها في تشكيل الدلال، ومنها مطرقة "للجمع" ومطرقة "للسحق" وثالثة "للتنعيم"، إضافة إلى مطارق أخرى عديدة كـ"حامل النايات"، وهو عبارة عن قطعة خشبية فيها فجوة من الأعلى تثبت فيها إحدى النايات.
يعاني الحاج مزعل في صنعته من عدم تناسبية الأدوات التي يستخدمها حاليا بعدما فقد تلك التي كان يستخدمها في دير الزور، نتيجة نزوحه السريع عنها، قائلا: "عدة العمل غير متوافرة في كل المحلات الخاصة بعدد النحاسة، وحتى إن وجدت ما يشبهها، فإنك لا بد أن تجد فروقاً عن تلك التي ابتكرها جدي".
من الآباء إلى الأبناء
مثلما ورث الحاج مزعل حرفته عن أجداده، أصرّ على تعليم أولاده مهنة صناعة الدلال، التي تستحوذ على خصوصية كبيرة لدى القبائل العربية بشكل عام، ولدى أهالي شرقي سوريا بشكل خاص.
محمد مزعل، ابن الحاج علي، قال لـ"سبوتنيك": "دلة مزعل" من أندر وأغلى دلال القهوة العربية، وعليها نقش على شكل ختم مكتوب عليه "عمل مزعل".
يتباهى كثيرون من أصحاب المضافات في البادية السورية وفي البيوت العربية الواسعة في أحياء دمشق القديمة، بل وحتى مديرو الشركات والمؤسسات، باقتناء الدلال الأصلية، ولا سيما "دلال مزعل" وهي تباع اليوم بأثمان باهظة.
ثمة شخصيات بارزة تقتني "دلال مزعل" وفق الشاب محمد، بينها، شيوخ عشائر كالشيخ عبود الجدعان، والشيخ راغب البشير، والشيخ أحمد الفياض في دير الزور، ومن محافظة الرقة، الشيخ إسماعيل العجيل والشيخ راكان، ومن مسكنة، الشيخ فيصل العريف.
دلة مزعل في "اللوفر"
شهرة الدلال التي يصنعها آل مزعل، بلغت شهرتها الآفاق، إذ أنه وزيادة على اقتنائها من قبل دواوين وزعماء القبائل العربية، فإن متحف "اللوفر" في باريس، يقتني مجموعة كاملة منها، وفق ما أكد الشاب محمد.
هنالك طقم من "دلال مزعل" معروض حالياً في متحف "اللوفر" في العاصمة الفرنسية باريس، كنموذج لهذه الصناعة العربية العريقة.
وحول ما يسمى "طقم دلال مزعل"، أردف محمد، بالقول: "يتألف من 12 دلّة مختلفة الأحجام أصغرها تسمى "المصب"، وأكبرها تسمى "الكمكوم" وهذه الأخيرة تُغلى فيها القهوة ثم تسكب في الدلال الأخرى الأصغر حجما بعد أن تصفى".
ووفقا للعادات العربية، يعد حجم "الكمكوم" مؤشراً يدل على موقع الشخص ومكانته في القبيلة، إذ يبلغ أكبرها نحو 20 لتراً من القهوة، وهذا يعني أن مقتنيها هو شيخ القبيلة وأبرز وجهائها.