جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار

يجلس العشرات من الشبان والشابات يوميا أمام خبير "القدود" في معهد "شباب العروبة" للفنون في مدينة حلب، الفنان صفوان العابد، مصغين إلى دروسه في أداء هذا النوع الغنائي الذي ابتدعته مدينتهم منذ زمن بعيد، فأضحى جزءا حميميا من تراثها المهدد بالاندثار.
Sputnik
على مدى سنين طويلة، غنت حناجر الحلبيين الذهبية بخاماتها الرخيمة، القدود الحلبية: "يا مال الشام"، "قدك المياس"، و"تحت هودجها"، لتطرب الآذان قبل أن تدفع الأجساد إلى التمايل لا إرادياً استجابة لإيقاعها الرنان، الذي لا يشبه أي نوع موسيقي آخر، فخصوصيته الموسيقية والتراثية تفرض تميزه وسلطنته.
تفردت مدينة حلب السورية بهذا الفن الطربي الأصيل المتوارث منذ زمن طويل، حيث واظب شيوخ وكبار سلاطين الطرب في تاريخها العريق على نقل أصوله عبر سلسلة متصلة من أجيال المغنين الذين يتشاركون معهم في الجينات الصوتية وحب الموسيقى بروحانيتها وأصالتها.
جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
القامات الفنية الحلبية المعاصرة بدروها، لم تتأخر عن تدريب وتعليم الجيل الجديد في معاهد فنية وأحيان على نفقات خاصة من أهالي حلب المهتمين بتراثهم الشعبي، الذي تمكن بقوة تأثيره وتاريخه العريق حجز مكانه في قلوب وعقول محبي الموسيقى في مختلف دول العالم، ما أهله لدخول لائحة التراث الإنساني العالمي كأحد الفنون اللامادية التراثية التي تحمل بصمة أهل حلب المميزة.

حلب أم الطرب

أكد الفنان صفوان العابد، الذي يعد من القامات الفنية القلائل التي تغني هذا النوع الموسيقي التراثي: "رغم أهمية القدود الحلبية وقيمتها الفنية والتراثية محلياً وعالمياً، إلا أنها لم تنل حقها من الاهتمام والانتشار المطلوب حتى مع إدراجها على لائحة التراث الإنساني العالمي، فهذه الخطوة كانت تفرض مواصلة تقديم الدعم وليس الاكتفاء في فترة الإعلان فقط".
جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
ويحاول العابد بكل السبل الممكنة المحافظة على تناسل القدود الحلبية بين الأجيار، مشيرا لـ"سبوتنيك":

لكل مدينة لها تراثها الخاص، ومدينة حلب أم الطرب تتميز بالقدود الحلبية، بإرثها الشعبي الذي تتناقله الأجيال، في ظل وجود مطربين يمتلكون أصوات شجية تتطابق مع هذا التراث الأصيل.

جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
وأضاف العابد:

قبل القدود كانت هنالك الموشحات الأندلسية الصوفية، وأهم من لحنها في حلب هم، شيخ عمر البطش وشيخ بكري الكردي وعبد القادر الحجار وعبد الرحمن المدلل، وقد تطابقت أصواتهم مع القامات الفنية المعاصرة كالراحل صباح فخري ومحمد خيري ومصطفى ساهر وغيرهم كثر غنوا القدود الحلبية.

جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
واستدرك العابد، بالقول:

للأسف، فأغلب الحلبيين لا يعرفون الجيل المؤسس للقدود لأنهم كانوا مغمورين في الزوايا الدينية، وهذا يرجع إلى طبيعة المجتمع الحلبي المحافظ، وكذلك بعض القدود لا تزال مغمورة، لذا نعمل على "نبش" الأناشيد التي لم تغن بعد، بقصد تلحينها وغنائها على مسمع الجميع للحفاظ عليها.

تقصير إعلامي وإنتاجي

أكد الفنان صفوان العابد، الذي حصد جوائز فنية عديدة داخل سوريا وخارجها، وهو حالياً مسؤول "نادي شباب العروبة" للآداب والثقافة والفنون أن القدود الحلبية لم تأخذ شهرتها كما تستحق بسبب التقصير الإعلامي وعدم وجود شركات تدعم هذا الفن الراقي، لذا يقوم مع مجموعة مع المغنين ومحبي الموشحات والقدود الحلبية بتوثيقها وتدريسها حتى لا تندثر أو تضيع أو يختلف مضمونها، وذلك باستقطاب المواهب من الأعمار كافة وأغلبهم من الفقراء وذوي الدخل المحدود من دون تقاضي أي مقابل مادي.
جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
ودعا العابد وزارة الثقافة السورية إلى تقديم الدعم المطلوب والمساهمة في غنائه بنطاق أوسع عبر التعاون مع المختصين حصراً، كون القدود والموشحات تحتاج إلى مطربين بمساحات صوتية مهمة وشجية تليق بها.

نقيب الفنانين: لن تندثر

يتفق نقيب الفنانين في حلب، عبد الحليم حريري، لجهة التقصير الإعلامي والرعاية الإنتاجية الرسمية أو الخاصة، لكنه يختلف مع الفنان العابد حول مخاوفه من تعرض هذا الفن الحلبي للاندثار.
جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
وقال حريري لـ "سبوتنيك":

لن تتعرض القدود للاندثار، فهي موجودة بقوة، فلا يوجد احتفال أو مناسبة دينية وثقافية واجتماعية إلا تغني أناشيدها، لكن المشكلة أن وصلات القدود، أصبحت معروفة ولا يوجد فيها تجديد، مع أنه ظهر أخيرا لون جديد يأخذ الأغاني المشهورة ويضع عليها قدود دينية، لكن لا يزال نطاقها ضيق.

الحاجة إلى التجديد

ويرى حريري أن طغيان الفنون الموسيقية الأخرى لناحية الانتشار كالأغاني الشعبية نتيجة عدم تجديد القدود، وهذا أمر يشتغل عليه مع أشخاص مهتمين بالقدود بشقيها الديني والمدني، فكما هو معروف القدود عبارة عن نشيد ديني يركب عليه قد مدني والعكس.
جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
وأضاف: "عملنا على عدة مشاريع لتجديد القدود كمشروع مع جمعية بيت القصيد، عبر كتابة قدود بكلمات وألحان جديدة، وأيضاً مشروع خاص بالأطفال عنوانه "قدودنا تراثنا"، ضم 120 طفل بغية الحفاظ على القدود الحلبية، لكن الاستمرارية رهن الغناء في الحفلات من قبل المطربين الكبار المعروفين، وتقديم الدعم الإعلامي اللازم للمساهمة بنشره على أوسع نطاق، مستفيدين من أن ميزة أن القدود فن مؤثر ومحبوب وراقص، فقليل ما تجد قدودا فيها حزن.

دعم رسمي وخاص

وشدد نقيب الفنانين في حلب على ضرورة تبني الدولة عبر مؤسساتها الثقافية هذا الفن الطربي، أو رعايته من قبل جهة إنتاجية خاصة، لكن الآن للأسف لا يوجد دعم كاف الآن، وأن كانت هناك جهود كثيرة تبذل لحماية هذا التراث الإنساني من قبل قامات فنية معروفة كصفوان العابد وأحمد خياطة ومحمود فارس وغيرهم، لكن يبقى ذلك بجهود وأموال شخصية.
جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
ورغم هذا الواقع أكد حريري أن القدود الحلبية مطلوبة عالمياً أكثر منه محلياً، فشيوخ وسلاطين الطرب من حلب يطلبون بشكل شخصي من دول عربية وعالمية لغناء القدود الحلبية، التي تتطلب خامات وقدرات صوتية عالية، لا يستطيع سوى المغني الحلبي إظهارها، وإن غناها آخرون، لكن الروح تختلف بالمطلق.

إقبال الجيل الجديد

قال الفنان صفوان العابد:

"يستحيل اندثار القدود الحلبية، فحلب ولاّدة بالخامات الغنائية الطربية، وهذا لا يعود إلى الهواء أو الماء، وإنما إلى جينات تتوارث".

وأضاف: "واليوم، الجيل الشاب يحاول رغم طوفان الأغاني الحديثة، حماية هذا الفن التراثي ومنعه من الاندثار".
جينات متوارثة وحناجر ذهبية شابة تحمي "القدود الحلبية" من الاندثار
بدورها، المغنية الشابة، شام شواخ، قالت لـ"سبوتنيك": "تواجه القدود الحلبية تهديداً وجودياً في ظل انتشار الأنماط الغنائية الحديثة مع أن القدود الحلبية تتفوق عليها بكل شيء، لذا نعمل على إحيائها بأسلوب مختلف وحمايتها كفن تراثي يشكل جزء حي من ذاكرة حلب".
يؤيدها في ذلك الشاب العشريني، عبد الله إبراهيم، طالب هندسة الكهرباء والعاشق للموسيقى كونه من عائلة موسيقية، لذا اختار العزف على آلة "القانون" كهوية ضمن فرقة موسيقية غايتها الحفاظ على الفن الحلبي ومنها القدود، التي يجدها مظلومة، لذا يتشارك مع مجموعة من الشباب وكبار السن في الفرقة الموسيقية مسؤولية الحفاظ على القدود الحلبية بإعادة غنائها وتلحينها بأسلوب مغاير يجذب جيل الشباب إليها.
مناقشة