بعد مجموعة مختصرة من التمارين الرياضية الصباحية، يجلس الرياضي الكهل أمام طاولته ليحتسي بضع كؤوس من (المتة)، قبل أن ينطلق في رحلته اليومية إلى أندية دمشق، حيث يعمل حاليا في تدريب أجيال مختلفة من الرياضيين.
يروي الكابتن الحايك لـ "سبوتنيك" تفاصيل عاشها في مراحل طفولته وشبابه وحتى شيخوخته والتي منحته لقب "الرياضي العتيق": كنت أهرب من منزل أهلي وأذهب إلى النادي الرياضي لأشاهد اللاعبيين وهم يلعبون، بدأت ممارسة الرياضة في أحد أندية دمشق بعد حرب فرنسا (استقلال سوريا عام 1946) باشتراك رمزي يبلغ (3 فرنكات/ الليرة السورية تساوي 20 فرنكا).
شقت السنون دروبها بوضوح تام في وجه الرياضي العتيق عتق جمهورية بلاده، يكفي المرء أن يرى هذه التضاريس الأنيقة على محياه ليدرك ما له من ذكريات رياضية ثرة تعود إلى الثانية عشرة من عمره، حين شارك في أول بطولة له مع (أشبال الملاكمة)، في العام 1946م.
ومع حاجته إلى بيئة أكثر احترافاً، سافر الرياضي الشاب نهاية ذلك العام إلى لبنان متدرباً مع أبطال سوريون منهم "اسماعيل حنفي"، وحنفي هذا هو عملاق البوكس السوري في أربعينيات القرن الماضي، لينتقل كما الكابتن الحايك عام 1960 إلى التدريب في نادي الوحدة الدمشقي، قبل أن يقوم بتشكيل أول فريق لسيدات الملاكمة في سوريا في عام 1963، ومن ثم يتفرغ كلياً للتدريب بدءاً من 1967، العام التالي لـ (حرب حزيران).
في عام 1973، وأثناء فترة الحرب (حرب تشرين التحريرية مع إسرائيل)، كان يعمل الحايك ويدرب ويشجع الجميع على الاستمرار بالرياضة: "لأن الملاكم يجب أن يكون قلبه حجر ليصبح بطلا دون خوف، مقتدياً بتشجيع الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي توج حبه للرياضية بمقولته الشهيرة: (اني أرى في الرياضة حياة)".
الكابتن حسين الحايك.. رياضي عتيق أشعل شمعته الـ 77 مع رياضة الملاكمة
© Sputnik . Farah Al Ammar
يضيف الرياضي العتيق: مع بداية عام 1975، أوكلت إلي مهمة تدريب المنتخب الوطني للملاكمة استعداداً للدورة العربية الخامسة التي تم تأجيلها من عام 1974 على خلفية نشوب (حرب تشرين التحريرية)، لتستضيفها سوريا عام 1976، بدلاً من السودان وليبيا اللتين اعتذرتا عنها سابقا.
أثناء التحضيرات لهذه الدورة الرياضية، استطاع الحايك اكتساب مهارات استثنائية استقاها من خبير روسي قدم إلى سوريا لتدريب الفريق الوطني للملاكمة من ضمن مجموعة خبراء رياضيين سوفييت للرياضات المختلفة.
عن تلك المرحلة يقول الرياضي العتيق: عشنا العصر الذهبي في ثمانينيات القرن الماضي.. عشرات المدن الرياضية.. عشرات الأندية.. استضافة البطولات الدولية بشكل كثيف.. مدربون جاؤوا إلينا من الاتحاد السوفييتي للتحضير لبطولات الدورة العربية الخامسة وألعاب البحر الأبيض المتوسط (1986م).
"حقق المدربون السوفييت المحترفين نقلة نوعية في جميع الرياضات السورية" يقول الكابتن الحايك، مضيفا: وبدأت مسيرة ولادة الأبطال السوريين الذين حصدوا الميداليات العالمية في كثير من الرياضات.
منذ ذلك الحين، مر زمن طويل على صفحة وجه الرياضي الكهل: مسارب متقاطعة وأخرى متباعدة يفصح كل تجعيد منها عن السريرة الجادة التي تمرست في تحقيق الانتصارات.
"زمن أول حوّل"
يرمقنا الرياضي العتيق بنظرة فاحصة لا تلبث أن تتلاشى أشعتها في عمق عينيه، متفكراً أن كيف يمكن له أن ينقل إحساساً طرياً تراكم في جبال حياته لأكثر من 75 عاماً قضاها في المهنة التي أحب ولا زال، فيما تكفلت السنوات العشرة الأخيرة بقضم تلك الكتلة الهائلة من شغفها وحبها.
يقول الرجل مختزلا حال الرياضيين السوريين في الوقت الراهن: "زمن أول حول.."، في إشارة إلى حياتهم التي انقلبت رأسا على عقب، فاليوم، ورغم التطور الكبير الذي طرأ على حياة الكابتن الحايك مذ بدأ مسيرته الرياضية عام 1945، إلا أن الوقائع التي كرسها انطلاق الحرب الإرهابية على سوريا عام 2011، وما تلاها من حصار اقتصادي غربي خانق، جعلا من عمله أشبه برحلة نضال يومية يخوضها منذ لحظة خروجه من المنزل وحتى عودته إليه مساءاً ، بما في ذلك المشاق التي يواجهها في وسائل النقل، والصعوبات المعيشية التي دفعت أمامها تراجعاً كبيراً في قدرته على تلبية متطلبات مهنته.
يرى الرياضي العتيق بأن الزمن طوى العصر الذهبي للرياضة السورية في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، إذ أن حياة الرياضيين تتطلب توفير اشتراطات خاصة لا تقوى الغالبية الساحقة من السوريين على تلبيتها في الوقت الراهن، بما في ذلك نوعية الغذاء والاحتياجات اللوجستية الأخرى، في الوقت الذي يعاني فيه السواد الأعظم منهم، ما يعانيه الشعب السوري عموما من صعوبات معيشية غاية في القسوة.
يتراجع الكابتن الحايك بجسده ليسند ظهره إلى كرسي يجلس عليه داخل استراحة ناديه الذي يعمل فيه حالياً، قبل أن يكمل حديثه لـ "سبوتنيك": في بداية حياتي الرياضية، لم يكن المردود المادي كبيراً، كان الفقر يحيط باللاعبيين من كل حدب وصوب، لدرجة أنهم كانوا يذهبون للتدريب سيراً على الأقدام حتى في الظروف الجوية القاسية، ولمسافات بعيدة، ولكن لم يثنهم هذا عن متابعة التدرب.
الكابتن حسين الحايك.. رياضي عتيق أشعل شمعته الـ 77 مع رياضة الملاكمة
© Sputnik . Farah Al Ammar
بعد هذا الوصف المقتضب لما عايشه من صعوبات مع أقرانه من الرياضيين السوريين عبر تاريخهم، يؤكد الرياضي الكهل بأن الظروف الصعبة التي تنتصب أمام الرياضيين اليوم سالكة باتجاه واحد، وسيكون على كل منهم أن يتحدى ما يعيشه من ظروف قاسية ليجعل من نفسه بطلاً رياضياً دولياً.
جيل جديد
رغم كل الظروف الصعبة وانسداد الأفق عن حلّها، يشعر الرياضي العتيق بتفاؤل عميق إزاء العديد من الرياضيين الذين يشرف على تدريبهم، متكئاً في ذلك على ملامسته لإيمانهم وشغفهم الذاتي بالرياضة.
الكوتش الشاب حسن الرفاعي، أحد تلاميذ الكابتن الحايك، حقق انتصارات عديدة على مستوى الجمهورية في رياضات اللياقة البدنية.
يقول الكوتش الرفاعي لـ "سبوتنيك": بدأت التدرب على أيدي الكابتن حسين منذ 12 عاماً، دفعني للمشاركة في بطولات عديدة واستطعت إحراز ميداليات ذهبية وفضية.
يشعر الرياضي الشاب بالامتنان لما يقدمه له مدربه الحايك: رغم تقدم المدرب حسين في السن، إلا أنه مازال يمتلك خبرة كبيرة، لقد أنشأ أجيال من الرياضيين ومنح خبرته لي حتى أصبحت مدرباً، وها أنا اليوم أعمل وأنقل هذه الخبرة للأجيال القادمة لإنشاء جيل لديه القدرة والإرادة ليتابع ويستطيع رفع اسم سورية داخل سوريا وخارجها.
الحصار الغربي أنهك الرياضيين
يتحدث الرياضي الشاب عن المرارة التي تواجه معظم الرياضيين السوريين في الوقت الراهن: "لا يمكن لأي رياضي أن يحقق تقدماً في اللعبة التي يمارسها، ما لم تتحق شروط عدة منها التغذية السليمة الناجعة والتجهيزات الاحترافية اللازمة لتدريبه"، مستدركاً قوله: "اليوم للأسف، هنالك صعوبات كبيرة في تأمين احتياجاتنا من التغذية الناجعة نظراً للظروف الاقتصادية التي نعيشها، ناهيك عن توفير متطلبات كثيرة أخرى كاللباس والتجهيزات وغيرها".
يعتقد الكوتش حسن بأن أحد أخطر المشكلات التي تواجه الرياضة السورية اليوم تتجلى بالحصار الاقتصاد الأمريكي الذي أطاح بقدرة الكثير من الرياضيين على تلبية احتياجاتهم.
ليس هذا فحسب، إذ أن الرياضي الشاب الذي بدأ منذ سنوات بتكييف برنامجه الغذائي والبحث عن بدائل أخرى تتناسب مع قدراته المالية، يشعر بالأسى لإضطرار الكثير من الرياضيين إلى الهجرة خارج البلاد بحثاً عن سبل عيش أفضل، فيما آخرون اضطروا لترك الرياضة نهائياً، نظراً لفشل قدرة الكثير من المتدربين وذويهم في دفع نفقة التدريب والانضمام إلى الأندية.