باحث سياسي حول كلمة بوتين في منتدى "فالداي": الرئيس الروسي يعيد بناء التاريخ المعاصر

أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمة له خلال فعاليات منتدى "فالداي" بنسخته الحادية والعشرين، يوم أمس الخميس، أن "النظام العالمي الجديد يتشكل أمام أعيننا، والسنوات العشرين المقبلة قد تكون أصعب"، مشيراً إلى أن "لحظة الحقيقة قادمة، وأن النظام العالمي القديم ذهب بلا عودة".
Sputnik
وفي حديث خاص لـ "سبوتنيك" حول كلمة الرئيس بوتين ومضموناتها، قال الكاتب والباحث السياسي الدكتور ساعود جمال ساعود: "كان خطاب بوتين غنيا بالمصطلحات والدلالات والرؤى العامة لمستقبل العلاقات الدولية، ففي قوله: "إن لحظة الحقيقة قادمة، وإن النظام العالمي القديم ذهب بلا عودة" تنطلق فرضيته من صورة الواقع الدولي الراهنة السيئة ومسبباته والفواعل الكامنة خلفها، وتتلخص رؤيتة بنظرية "الخلاص بكسر النسق البائد"، مشيراً إلى أن "كلمات بوتين تعكس قلقه من المستقبل وتحدياته، وتبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقات الدولية وكيفية إدارة الأزمات القادمة".
بوتين عرّى ظاهرة "الطحن الايديولوجي الغربي"
وأضاف الباحث السياسي السوري: "إشارة بوتين إلى أن العالم اليوم يشهد صراعا بين الأقلية العالمية للحفاظ على الهيمنة، تحمل انتقاداً للنخب العالمية التي تتنافس على السلطة والنفوذ، قلة من الغرب تسعى للحفاظ على هيمنتها ونفوذها في العالم، ما يؤدي إلى صراعات جيوستراتيجية مع الدول الأخرى التي تسعى للاستقلال أو التوازن وتتجاهل مصالح الشعوب العادية، ما يبرز أهمية النظام المتعدد الأقطاب"، لافتاً إلى أن "هذا القول ينطوي على تفسير للصراعات الحالية في مناطق مثل الشرق الأوسط وإفريقيا وأوكرانيا، حيث يُنظر إلى التدخلات الخارجية على أنها محاولات من قبل القوى الكبرى للحفاظ على سيطرتها، مثل هذه التصريحات قد تُستخدم لتعزيز الشعور الوطني في روسيا، بما أنها تدعم العدالة والمساواة في النظام الدولي، مقابل القوى التي يسميها "الأقلية العالمية".
جدلية "الحق والممارسة" في خطاب بوتين
وحول حديث بوتين عن أن "الليبرالية الغربية أدت إلى التعصب والعدوان الشديد" قال الدكتور ساعود: "تعود المعاكسة السياسية العالمية للغرب لعاملين: أولها الممارسات وما رافقها من احتلال، وانتهاك سيادة، وتغيير معالم جيوسياسية لدول ومناطق بحد ذاتها، والثاني: هو الإيديولوجيا وغزوها التدميري للبنية الثقافية والاجتماعية لبعض دول العالم"، مشيراً إلى أن "الليبرالية الغربية أدت إلى انهيارات تمهيدية لسلوكيات سياسية وعسكرية عدوانية أدت إلى نتائج عكسية، مثل تصاعد التعصب أو النزاعات، التدخلات العسكرية والسياسات الخارجية للدول الغربية، أسهمت في خلق أزمات وصراعات جديدة فاقمت التوترات الدولية، وإلى فقدان الهوية الوطنية أو الثقافية في بعض الدول، ما يستدعي العمل لفرض أهمية احترام التنوع الثقافي والسياسي في العالم، أما ظاهرة "الطحن الايديولوجي الغربي"، فبوتين يدعو للإيمان بـ : "لكم دينكم ولي ديني" كحق وسلوك".
مرحلة السياسة الهجينية.. بوتين وإعادة تفسير التاريخ
وأوضح الباحث السياسي في حديثه عن إشارة بوتين إلى أن "المصادر الحقيقية للصراعات الحديثة سلوك مخز وجشع جيوسياسي غير مسبوق للغرب بعد الحرب الباردة"، أن هذا تفسير للصراعات الحالية من منظور تاريخي وجيوسياسي، حيث يتم تحميل الغرب مسؤولية هذه الصراعات، إذ إن تحديد مصدر الصراع الحديث، يعكس وجهة نظره حول الديناميكيات الجيوسياسية الحالية، فالدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة وحلفاءها، تصرفت بطريقة غير أخلاقية للحفاظ على النفوذ والسيطرة بعد انتهاء الحرب الباردة، فكان هناك (التدخلات العسكرية، العقوبات الاقتصادية، ودعم الأنظمة السياسية التي تتماشى مع مصالحها.. وغير ذلك).
منظور مغاير للتاريخ السياسي للعالم
وأضاف الدكتور ساعود: "يقدم بوتين منظوراً مغايراً للتاريخ السياسي حيث يرى أن الغرب استغل انهيار الاتحاد السوفيتي لتعزيز نفوذه على حساب الدول الأخرى، فالأزمات في أوكرانيا وسوريا، يمكن أن تُفهم كنتيجة مباشرة لسلوكيات القوى الغربية، وتصريح بوتين فيه دعوة لتوازن أكبر في النظام الدولي واحترام مصالح الدول المختلفة وعدم استغلالها من قبل القوى الكبرى"، موضحاً أن بوتين هنا ينتزع زمام المبادرة من الغرب ويدشن مرحلة "السياسة الهجينية" عسكرياً بأسلحته النوعية، وحماية أمنه القومي وأمن حلفائه، وعبر بريكس اقتصادياً وإيديولوجيا قوامه الفكر المغاير، وموجة التبديد السياسي لممارسات الغرب.
مراقبون عن كلمة بوتين: منطقية ولا بد من إنهاء الهيمنة الأمريكية والغربية
تطاحن الإيديولوجيات.. وصراع "المشاريع الجيوستراتيجية"
وقال الباحث الاستراتيجي: "إن الصراع الذي أشار إليه بوتين من أجل تشكيل "نظام عالمي جديد"، هو بالفعل صراع الأفكار والمبادئ التي تشكل مضمون الحشوة الإيدولوجية للمشاريع الجيوستراتيجية المتصارعة، حيث تنبع حالة عدم التوافق من طبيعة المشروعين الغربي والشرقي من حيث الإيدولوجيا والأدوات والأهداف، فالمشروع الأمريكي هدفة السيطرة عموماً، وأداته عسكرية تقود لنتائج تهدد الأمن والسلم العالميين، متأثرين بأرثهم الأمبراطوري، وبالمقابل المشروعان الصيني والروسي هدفهم التنمية الاقتصادية والتعاون السياسي بالحفاظ على سيادة الدول، وشبكات تعاون اقتصادية وسياسية وعسكرية عند الشروع بضرب أمنهم القومي"، لافتاً إلى أن هذا الصراع بين مشروعين جيوستراتيجيين متناقضين في الطبيعة والأهداف والأدوات، سيخلق مع كل صدام نمطاً من التفاعل الدولي يؤثر على النسق الدولي وبنية النظام الدولي والقيم المرافقة.
وأضاف الدكتور ساعود: "هنا ساحة رجع الصدى هي الساحة الإقليمية والدولية، والمتأثر سلباً أو إيجاباً هو الأمن والاستقرار الدولي، وما قول بوتين إن "روسيا أوقفت مرارا من كانوا يسعون إلى الهيمنة على العالم وستبقى كذلك وستحقق كل أهدافها"، إلا رسالة واضحة إلى الغرب أمريكا والناتو الداعمين لأوكرانيا والمتصارعين مع روسيا بمناطق نفوذ عالمية أخرى، ولعل كلمة لافروف: "مركز ثقل العالم انتقل إلى أوراسيا" هي تثبيت مواقع وتسجيل نقاط روسية استباقية".
الناتو يبحث سبل "فك الطوق الحديدي الأمريكي"
وحول كلمة بوتين عن اهتمام " دول الناتو" بالعمل مع مجموعة "بريكس" أوضح الباحث الاستراتيجي أن كلام الرئيس بوتين يؤكد مظاهر عدة منها: إحكام الأمريكي قبضته على الناتو بعد تخويفه من روسيا، وإبقاؤهم بحاجتها، لذا ظهرت الرغبة لدى البعض بالتحرر من الطوق الحديدي الأمريكي، وهذا مرده إلى تزايد نفوذ "بريكس" في الساحة الدولية، والرغبة في تنويع شراكاتها الاقتصادية والسياسية، وتنويع العلاقات التجارية والاستثمارية، وفي العموم إن حصل تعاون بين بعض دول الناتو و"بريكس" سيكون ضمن سياق إعادة تقييم تحالفاتها واستراتيجياتها في ضوء التغيرات الجيوسياسية وأهمها "إثبات القوة الروسية والتفوق الصيني وانتقال مركز الثقل لأوراسيا".
صحوة دولية والهيمنة الغربية على أعتاب الزوال
وقال الدكتور ساعود: إن الرئيس بوتين أكد أن تهديدات الهيمنة الغربية ستنتهي عاجلًا أم آجلًا، وقوله: "هذا ليس وهماً" يعكس مجموعة من الأفكار والمفاهيم التي تتعلق بالسياسة الدولية والتوازنات الجيوسياسية الجديدة المرتبطة بظهور قوى جديدة تسعى إلى تحدي النفوذ الغربي، وهذا يتماشى مع جهود روسيا والصين ودول أخرى لتعزيز التعاون فيما بينها جراء الممارسات والقيم الغربية التي خلقت قناعات ومشاعر لدى دول العالم بأن النظام الدولي الذي تهيمن عليه القوى الغربية غير مستدام، فكلام بوتين يُظهر كيف أن التحولات في السياسة الدولية تُعد جزءًا من دورة تاريخية أكبر، ويعكس رغبة روسيا في تعزيز موقفها كقوة كبرى في عالم يتجه نحو تعدد الأقطاب.
روسيا وتصدير الذات.. قيادة مرحلة "تحرر العالم"
وأوضح الباحث الاستراتيجي أن بوتين يثبت بتأييد شعبه، ومقدرات روسيا العسكرية، ونفوذها السياسي، وتفرعات نفوذها الأخطبوطية، والإمساك بخيوط اللعبة الاقتصادية استناداً لمواردها، ونجدة حليفها الصيني وتكتلاتها الاقتصادية، مشيراً إلى أن "روسيا نجت مما أريد لها من أفخاخ استراتيجية، ومما أحاط بأمنها القومي من مخاطر، وهي سيدة الساحة تمسك بزمام الأمور عسكرياً، ومستمرة بتأمين جغرافيتها ومستقبلها الجيوسياسي بقوة النار، رغم كثافة حشد الناتو ضدها، فهناك نقطة حرجة أشار إليها بوتين إذا بلغتها الأحداث فإن روسيا لن تخبئ النووي في جحوره، فسياسة إماطة اللثام إلى الخطوة الأخيرة، وبالمقابل تلّوح بما يميز نهجها السياسي وهو مخرج بالوقت ذاته، باب الحوار من باب القوة والمنتصر مع إدارة أمريكية جديدة، وقد تتلقف الرسائل وترغب بتجنب المزيد من التصعيد الذي سيزيد "الدب الروسي" و"التنين الصيني" شراسة في الحلبة الدولية".
واشنظن والرقص على حبال الاحتواء.. "حرب الخفاء"
وقال الدكتور ساعود: "أما تصريح بوتين بأن "الولايات المتحدة تنتهج سياسة احتواء روسيا والصين"، فإن احتواء الصين وروسيا من أهم أهداف ومرتكزات استراتيجية الأمن القومي الأمريكي وهناك ترجمات عملية، إذ لا تأخذ أمريكا بالحسبان استفحال نتائجها العكسية على إرادة كبح نفوذها"، مشيراً إلى أن الخطر في أن الاحتواء سيؤدي مستقبلاً إلى تصاعد التوترات بين القوى الكبرى، ما قد يؤدي إلى سباق تسلح أو نزاعات عسكرية غير مباشرة، وتحول محتمل في موازين القوى العالمية، حيث قد تزداد قوة التحالفات بين الدول غير الغربية، وهو ما سيهدد الهيمنة التقليدية للغرب، إضافة إلى تقلبات في الأسواق العالمية، حيث يمكن أن يتأثر الاستثمار والتجارة بشكل كبير، ما يعني أن استمرار واشنطن بسياسات الاحتواء سيقود الساحة الدولية إلى المزيد من التوترات الجيوسياسية والدخول بدائرة حروب الخفاء.
مناقشة