وتاريخيا، كانت تونس من ضمن أوائل الدول المنتجة والمصدرة لمادة الفوسفات في العالم، حيث تمتلك احتياطيات ضخمة تتركز أساسا في منطقة الحوض المنجمي في محافظة قفصة (الجنوب الغربي التونسي).
وسنة 2010، احتلت تونس المرتبة الخامسة عالميا من حيث الإنتاج بما يناهز 8 ملايين طن، قبل أن تتراجع إلى المرتبة الثانية عشر عالميا بإنتاج يقدّر بـ 3.2 مليون طن تم تحقيقها في العام 2023.
ويوفّر هذا القطاع موارد مالية مهمة للدولة تقدّر بمليار دينار سنويًا، مما يساعد على تقليص العجز التجاري، ودعم استقرار قيمة الدينار، وبالتالي الحد من ارتفاع معدلات التضخم، فضلا عن توفيره فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لآلاف المواطنين.
وفي إطار الجهود التي تبذلها لمعالجة الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة، تسعى الحكومة التونسية إلى تفعيل خطط تهدف من خلالها إلى الاستفادة القصوى من قطاع الفوسفات واسترجاع مستويات الإنتاج السابقة تدريجيا واستعادة مكانته كمحرك رئيسي للاقتصاد.
ومن بين الأهداف المحددة لسنة 2024، الوصول إلى إنتاج 5 ملايين طن من الفوسفات، مع تطلعات للوصول إلى 8 ملايين طن بحلول سنة 2025. وهو ما من شأنه أن يوفّر عائدات تصل إلى ملياريْ دولار سنويا، وهو مبلغ قريب من قيمة القرض الذي كانت تونس تسعى إلى الحصول عليه من صندوق النقد الدولي.
القطاع الخاص يدخل على خط الإنتاج
وفي سابقة في تاريخ البلاد، سمحت السلطات التونسية مؤخرا بدخول القطاع الخاص على خط إنتاج الفوسفات، الذي كان مقتصرا على شركة "فوسفات قفصة" التي أدارت هذا النشاط منذ تأسيسها في العام 1897.
وباشرت بالفعل الشركة التونسية لمعالجة المعادن في بعث أّول وحدة صناعية خاصة لمعالجة وإنتاج الفوسفات الصناعي بمحافظة الكاف (الشمال الغربي التونسي)، بطاقة إنتاجية تناهز 250 ألف طن سنويا، وباستثمارات إجمالية للمشروع تقدّر بنحو 25 مليون دينار (ما يعادل 8.3 ملايين دولار).
ويرى المنسق الوطني للتحالف التونسي للشفافية في الطاقة والتعدين شرف الدين اليعقوبي، في تصريح لـ"سبوتنيك"، أن انفتاح قطاع الفوسفات على القطاع الخاص هو خطوة إيجابية ومطلوبة، خاصة مع ما يتطلبه من استثمارات ضخمة قد تعجز الدولة عن توفيرها في الفترة الراهنة.
وتابع: "ربما تكون حوكمة الشركات الخاصة أفضل وأكثر مرونة من حوكمة شركة فوسفات قفصة بما سينعكس على المردودية وعلى القدرة الإنتاجية".
ولفت اليعقوبي إلى ضرورة أن تقترن هذه الخطوة مع مسألتين رئيسيتين، الأولى هي وضع شروط ومعايير صارمة تتعلق بإسناد الرخص للشركات الخاصة مع الأخذ بالاعتبار كفاءة هذه الشركات وصلابتها المالية وقدراتها التقنية.
وأضاف: "أما المسألة الثانية فتتعلق بالرقابة على هذه الشركات، خاصة وأن قطاع الفوسفات يتضمن العديد من المخاطر على الصعيد الاجتماعي والبيئي".
وشدد على ضرورة أن تضمن العقود المنظمة لنشاط هذه الشركات حقوق الدولة الجبائية والمالية وأيضا الاستحقاقات الاجتماعية من حيث توفير مواطن الشغل.
ويرى اليعقوبي أن تونس قادرة على استعادة مستويات الإنتاج القياسية التي كانت تسجلها قبل الثورة، خاصة وأنها تمتلك خبرة واسعة في هذا القطاع ولها احتياطي وإمكانات إنتاج كبيرة، مشددا على أهمية وأولوية معالجة الإشكاليات العالقة في شركة فوسفات قفصة، ومن أهمها تقادم المعدات.
وتابع: "الصعود بالإنتاج من 4 ملايين طن إلى 8 ملايين طن هو مسألة ممكنة إذا تم توفير الاستثمارات اللازمة وتطوير وسائل الإنتاج بشركة فوسفات قفصة"، مشيرا إلى أن نتائج هذه الإجراءات ستكون سريعة على خلاف قطاعات أخرى مثل النفط.
إشكالات تعيق تحسين الإنتاج
وفي الموضوع، قال الخبير في مجال الطاقة غازي بن جميع، في تصريح لـ "سبوتنيك"، إن إشراك القطاع الخاص في إنتاج الفوسفات قد يكون خطوة إيجابية، ولكن المسألة ليست مرتبطة بالأطراف المتدخلة في الإنتاج، حسب قوله.
وأوضح: "الإشكال الأساسي يتعلق بتوفير الظروف الملائمة لإنتاج الفوسفات دون التسبب في أضرار صحية أو بيئية، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف التشغيلية لمتساكني منطقة الحوض المنجمي".
ويرى بن جميع أن تحقيق النجاعة المطلوبة في الإنتاج يتطلب أيضا التخلي عن نقل الفوسفات عن طريق الشاحنات واستبدالها بالسكك الحديدية أو الاعتماد على سلسلة تربط مناطق الإنتاج مباشرة بمناطق التحويل أو التصدير، كما هو الحال في العديد من الدول.
وأشار الخبير إلى أن تكلفة نقل الفوسفات بالشاحنات على مسافات طويلة تناهز 5 أضعاف تكلفة نقله بالسكك الحديدية، ناهيك عما تسببه هذه المسألة من أضرار بيئية ناجمة عن إفراز الشاحنات لكميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون.
وأضاف: "من الإشكالات الكبرى التي أدت إلى تراجع إنتاج الفوسفات هو عزوف المواطنين في مناطق الحوض المنجمي عن مواصلة العمل في الظروف الحالية التي نجمت عنها كوارث صحية وإصابات متعددة بأمراض سرطانية وهشاشة العظام".
وقال إن الإشكال الثاني يتعلق بالمياه، حيث أن شركة فوسفات قفصة تستهلك كميات هائلة من المياه الجوفية من أجل تحويل الفوسفات وتركيزه، في الوقت الذي تعاني فيه البلاد من أزمة مائية حادة تتضاعف خاصة في منطقة الحوض المنجمي.
وأوضح: "المياه الجوفية التي تستغلها الشركة تلقى في المحيط، وتتسبب في تلويثه وأيضا في حرمان المواطنين وخاصة الفلاحين من تلك المياه التي هم في حاجة إليها أكثر من حاجتهم إلى شركة الفوسفات".
ويرى بن جميع أن الخطط الحكومية الرامية إلى إنقاذ قطاع الفوسفات يجب أن تأخذ بالاعتبار مسألة رسكلة هذه المياه على أسس سليمة من أجل إعادة استغلالها سواء على مستوى الفلاحة أو الفوسفات.
ويقّر ابن جميع بأن تونس قادرة على الترفيع في مستوى إنتاج الفوسفات أكثر حتى مما كانت تحققه في السنة المرجعية (2010)، شريطة أن يقترن الأمر بإيجاد حلول للإشكالات البيئية والصحية والاجتماعية.