وفي خضم المناقشات البرلمانية بشأن مشروع قانون المالية لسنة 2025، اقترحت مجموعة من النواب في البرلمان التونسي، إضافة فصل جديد، يفرض على الكفاءات التونسية من أطباء ومهندسين دفع نسبة من كلفة تكوينهم في الجامعات التونسية، تصل قيمتها إلى 50 في المئة.
وتأتي هذه الخطوة في وقت تشهد فيه هجرة الأدمغة في تونس ارتفاعا حادا، حيث تُظهر إحصاءات المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية التونسية، أن 3 آلاف مهندس تونسي يغادرون البلاد سنويا، بينما بلغ العدد الإجمالي للمهندسين الذين غادروا البلاد خلال السنوات الخمس الماضية نحو 40 ألف مهندس.
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة، غادر تونس نحو 4 آلاف طبيب، معظمهم من أصحاب الاختصاص، وهو ما أدى إلى تآكل قاعدة الكفاءات اللازمة للبحث والتعليم، فضلا عن وجود نقص على مستوى أطباء الاختصاص في المستشفيات العمومية.
وبحسب مختصين، فإن ظروف العمل الصعبة وغياب القوانين التي تحميهم من المخاطر المهنية، وقلة الاستثمار في البحث والتطوير من العوامل التي أسهمت في تزايد نزيف هجرة الأدمغة. ويمثل المهندسون التونسيون أكثر من 80 في المئة من الكفاءات المهاجرة إلى الخارج.
ما الذي يقترحه النواب؟
وتنص المبادرة التشريعية التي اقترحها النواب، على أن يسدد خريجو الجامعات في اختصاصات الطب والهندسة والتخصصات التقنية قيمة مالية تناهز 50% من كلفة دراستهم في تونس في حال اختاروا العمل بالخارج.
ويقترح النواب أن يسدد المعنيون بهذا الفصل هذه المبالغ عن طريق أقساط سنوية تحدد في إطار جدول زمني يتم الاتفاق عليه بين وزارة التعليم العالي والكفاءة المعينة بهذا الإجراء.
وفي تصريح لـ "سبوتنيك"، أوضحت النائب في البرلمان فاطمة المسدي، أن هذا الإجراء سيستثني خريجي الجامعات الذين يختارون العودة إلى تونس قبل انقضاء 5 سنوات من تاريخ مغادرتهم، شريطة أن يعملوا داخل تراب وطنهم لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات.
وأضافت: "طالب الطب مثلا يُكلّف المجموعة الوطنية 15 ألف دينار (نحو 4767 دولار)، وبهذا الفصل سيكون مطالبا في صورة مغادرته البلاد بدفع مبلغ لا يتجاوز 7 آلاف دينار، وهو مبلغ بسيط.
وتشير المسدي إلى أن تكوين الكفاءات في تونس يتكبدها دافعو الضرائب، مضيفة: "عندما اختارت تونس التأسيس لنظام تعليمي مجاني كان الهدف بالأساس هو تكوين كفاءات وإطارات قادرة على النهوض بالبلاد، وللأسف هذه الكفاءات تستفيد منها اليوم دول أجنبية".
وأضافت: "عندما يتوجه طالب الطب للدراسة في الجامعات الفرنسية سيكون مجبرا على دفع مبالغ لا تقل عن 20 ألف أورو، وفي تونس لا يتعدى المبلغ الذي يدفعه الطالب للدولة 15 دينارا (4.7 دولار).
وليست هذه المرة الأولى التي تطرح فيها هذه المبادرة، إذ سبق للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، أن اقترح "فرض تعويضات في شكل اقتطاعات من الرواتب أو ضرائب توظف على أجور المغادرين باتفاق مع بلد المهجر، فضلا عن شرط الحد الأدنى لعدد سنوات العمل في بلد المنشأ، والتزام الخدمة المدنية بالمناطق ذات الأولوية."
الحد من نزيف هجرة الأدمغة
وتؤكد النائبة في البرلمان، فاطمة المسدي، أن هذه المبادرة تهدف بالأساس إلى الحد من هجرة الكفاءات التونسية التي تشهد ارتفاعا حادا سنة بعد أخرى.
وأشارت إلى أن المئات من الأطباء والمهندسين التونسيين، باتوا يختارون العمل بالخارج صلب مؤسسات أجنبية، ولا يعودون إلى بلدهم.
وتابعت: "ما يحصل حاليا هو أن تونس باتت تستورد المهاجرين غير النظاميين وتصدّر في الكفاءات التونسية على حساب المصالح الوطنية، وهذا ما لن نقبل به".
وشددت المسدي، على أن هذه المبادرة التشريعية لا تتعارض مع الدستور أو مع حرية التنقل، مشيرة إلى أن الفصل المقترح سيترك لهذه الكفاءات حرية الاختيار بين البقاء في الخارج ودفع مساهمات مالية أو العمل في تونس لمدة لا تقل عن 3 سنوات".
ولفتت إلى أن هذه المساهمات ستوجه إلى تحسين جودة التعليم العالي والبحث العلمي وتطوير البنية التحتية للجامعات التونسية.
وحول الانتقادات المثارة حول هذا المقترح، قالت المسدي إن هذه المبادرة فتحت أبواب النقاش حول هجرة الأدمغة رغم الانقسامات حوله، مشددة على أن هذا النقاش هو مسألة إيجابية حيث أثمرت عن وجود مبادرة لتنقيح هذا الفصل في اتجاه تحسينه.
إجراء عقابي ضد الكفاءات التونسية
على الطرف المقابل، يعتبر العضو السابق في عمادة الأطباء والمباشر في مجال الطب منذ 25 سنة شكري عزوز أن هذه المبادرة التشريعية بمثابة "عقاب للكفاءات التونسية".
وقال عزوز، في تعليق لـ "سبوتنيك"، إنه فوجئ على غرار العديد من الأطباء والمهندسين بهذه المبادرة التي يرى فيها ظلما للكفاءات التونسية.
وتابع: "لا أحد يختار الهجرة طوعا، فهؤلاء أجبروا على الهجرة لأنهم لم يجدوا الاعتبار في بلادهم"، مشددا على أن ظروف العمل خاصة في المستشفيات العمومية هي ظروف منفرة وغير محفزة.
وأضاف: "بمنطق المادة، يمكن أيضا للأطباء أن يسائلوا الدولة التونسية عن الساعات الإضافية التي يقضونها صلب مستشفيات القطاع العمومي، ويمكن للأساتذة الجامعيين أن يسائلوا وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عن المقابل المادي لتدريس الطلبة في جامعات الطب وتأطيرهم"، مشيرا إلى أن الأساتذة الجامعيين لا يحصلون على مقابل لقاء هذه المهمة وتقتصر أجرتهم على ساعات عملهم صلب المستشفيات.
ويشير عزوز، إلى أن أجور الأطباء وحتى المهندسين ضعيفة مقارنة بدول أخرى، مضيفا: "الراتب الشهري للطبيب في القطاع العمومي بالكاد تساوي أجرة يوم واحد من العمل في القطاع الخاص، أو يومين على أقصى تقدير".
ولفت المتحدث إلى أن العديد من الأطباء إما سلكوا طريق الهجرة أو اختاروا الالتحاق بالقطاع الخاص ليس فقط بسبب الظروف المادية وإنما أيضا بسبب البيروقراطية والمحسوبية.
ويعتقد عزوز أن فرض تعويضات مالية على الكفاءات التونسية المهاجرة لن يوقف نزيف هجرة الأدمغة وإنما سيضاعف الأزمة، قائلا: "هذا الإجراء سيدفع الأطباء والمهندسين إلى الهجرة دون رجعة".
ويرى عزوز، أن حل أزمة هجرة الكفاءات يجب أن يمر بإجراءات أكثر ليونة وفهما للتحديات التي يواجهها الأطباء والمهندسون في تونس، مشددا على ضرورة التفكير الجدي في تحسين وضعية هذه الكفاءات والعمل على مراجعة الأطر القانونية التي تسببت في خلق العديد من الفجوات والمشاكل.