وتعود جذور هذه الأزمة إلى انهيار أسعار الزيت، التي تراجعت من 26 دينارا (8.2 دولارا) للتر الواحد في العام الماضي، إلى ما دون الـ12 دينارا (3.7 دولار) هذه السنة، لأسباب فسرها البعض بوفرة الإنتاج على المستويين العالمي والمحلي وتراجع الأسعار في الأسواق العالمية.
ويمثل قطاع "الزياتين رافدا مهما من روافد العملة الصعبة لتونس، حيث تمثل صادرات زيت الزيتون 47.5 بالمئة من مجموع الصادرات الغذائية، ويسهم هذا القطاع بنحو 7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويوفر 50 مليون يوم عمل لأكثر من 250 ألف عامل في السنة.
رئيس نقابة الفلاحين التونسيين، الميداني الضاوي
© Sputnik . Mariam.Gadera
ومع تصاعد كلفة الإنتاج مدفوعة بارتفاع أسعار اليد العاملة ومياه الري، وجد المزارعون أنفسهم أمام تحديات تفاقمت بفعل انخفاض أسعار زيت الزيتون، ما قلص هامش أرباحهم وقاد العديد منهم إلى تعليق عمليات جني الزيتون وتنفيذ وقفات احتجاجية، وسط مطالبات للدولة باتخاذ إجراءات عاجلة لاحتواء الوضع.
في هذا السياق، أجرت "سبوتنيك" حوارا مع رئيس نقابة الفلاحين التونسيين، الميداني الضاوي، الذي تطرق إلى واقع قطاع زيت الزيتون، والتحديات التي تُواجه الفلاحين وأهمية إيجاد حلول عملية للنهوض بهذا القطاع الحيوي، من أجل تحقيق سيادة تونس الغذائية وتعزيز استقلاليتها الاقتصادية. وفيما يلي نص الحوار:
قطاع "الزياتين" يعيش أزمة متصاعدة بعد إيقاف عمليات جني المحصول فماهي أسباب هذا الوضع؟
لقد شهدت تونس زيادة في إنتاج الزيتون هذا العام رغم سنوات الجفاف العجاف التي مرّت بها البلاد، وذلك بفضل تشبيب الأشجار، زيادة على أن 90 بالمائة من صابة الزيتون لهذه السنة هي مروية.
هذه العوامل أدت إلى زيادة الإنتاج بنسبة 50% مقارنة بالعام الماضي، حيث من المتوقع أن تبلغ صابة الزياتين هذه السنة مليون و700 ألف طن من الزيتون، أي ما يعادل 340 ألف طن من الزيت، مقارنة بـ 200 ألف طن في الموسم الماضي.
أزمة الأسعار قادت إلى تعطل موسم الجني، حيث لم تتجاوز نسبة جمع الصابة 30 بالمائة رغم أن الموسم يشارف على نهايته. وهو وضع ينذر بالخطر على اعتبار أن الزياتين هي زراعات موسمية محددة بأجل يتراوح بين 90 يوما و 120 يوما، ولا يمكن أن تتأخر أبعد من ذلك.
هذا التأخير له عواقبه الوخيمة التي قد تؤثر على الموسم القادم، على اعتبار أن الأشجار ستبقى مثقلة بإنتاجها، ناهيك عن أن العودة الجماعية للجمع في فترات وجيزة ستتسبب في إحداث اكتظاظ على مستوى المعاصر التي لها طاقة استيعاب محددة، وهو ما سيقود بالضرورة إلى فرضية التخزين الذي قد يؤثر على الجودة.
رئيس نقابة الفلاحين التونسيين، الميداني الضاوي
© Sputnik . Mariam.Gadera
كيف يمكن امتصاص هذا الفائض في الإنتاج؟
يجب التأكيد على أن صابة الموسم الحالي ليست قياسية، فالتقديرات تشير إلى أن المحاصيل ستكون في حدود 340 ألف طن، وإذا كانت الظروف المناخية ملائمة لتجاوزت تونس 600 ألف طن، خاصة في ظل وفرة المساحات المزروعة والتي تضم 100 مليون شجرة زيتون.
في كل حلقة إنتاج هناك دائما حلقة وسطى وهي السوق التعديلية التي تتدخل لامتصاص الفائض في الإنتاج في أي مادة كانت، وتخزينه ثم ضخه في الأسواق في فترات لاحقة بأسعار مناسبة. هذا الأمر ينطبق أيضا على قطاع الزياتين، وهنا يأتي دور الديوان الوطني للزيت الذي يتدخل بمخازنه لمواكبة الارتفاع على مستوى الإنتاج بامتصاص الفائض، وهو ما لم يحصل بالكيفية المطلوبة والقادرة على مواكبة الوفرة المسجلة حاليا.
ما هو السعر الذي يمكن أن يضمن مصالح المزارعين ويراعي المقدرة الشرائية للتونسيين؟
يجب الفصل بين المقدرة الشرائية والمنتج، إذ لا يمكن أن نوظّف الشأن الاجتماعي على دوائر الإنتاج التي تعد الضامن الأول للأمن الغذائي للتونسيين.
ومن المهم الإشارة إلى أن المزارعين لم يطلبوا أرباحا ضخمة، وإنما طالبوا بالحد الأدنى المعيشي الذي يخول لهم أيضا المحافظة على غابات الزياتين وتعويض كلفة الإنتاج المرتفعة، وتبعا لذلك لا يمكن أن نقبل بسعر أقل من 15 دينارا للتر، فالمحافظة على هامش الربح سيؤدي بالضرورة إلى تواصل الإنتاج والمحافظة على الزيتون الذي يعتبر ذهب تونس الأخضر.
وبالنسبة للمقدرة الشرائية للتونسيين، الحلول موجودة، وقد اقترحنا صلب النقابة أن يبادر ديوان الزيت بتحديد تسعيرة خاصة بالاستهلاك المحلي ومغايرة لسعر البيع في الأسواق العالمية، ويمكن للدولة أن توجه محاصيل المركبات الفلاحية المملوكة لها للاستهلاك الداخلي.
رئيس نقابة الفلاحين التونسيين، الميداني الضاوي
© Sputnik . Mariam.Gadera
الخطاب الرسمي للسلطة أكد على ضرورة دعم القطاع ووزارة الفلاحة أعلنت عن جملة من الإجراءات العاجلة.. إلى أي مدى ساهمت هذه القرارات في حلحلة الأزمة؟
إنقاذ الوضع يتطلب أولا تفعيل القرارات التي أعلنت عنها رئاسة الجمهورية، ونحن نأمل في أن يقع تجسيد الخطاب الرسمي والاجتماعات المتواصلة على مستوى وزارة الفلاحة على أرض الواقع.
ونقابة الفلاحين ستمد يدها للحوار والتعاون في سبيل حلحلة هذه الأزمة وتطوير هذا القطاع الحيوي الذي يمثل ركيزة هامة من ركائز الاقتصاد، فتونس حققت رقما مهما من تصدير زيت الزيتون إلى الخارج يفوق 5000 مليار دينار (1652 مليار دولار). وكان من المفترض أن ترتفع هذه القيمة إلى 9000 مليار دينار مواكبة لمنحى الإنتاج التصاعدي.
نحن نقر بانخفاض الأسعار على مستوى الأسواق العالمية ولكن كان من الممكن معالجة هذا الأمر باتخاذ خطوات استباقية، لقد سبق وحذرنا كنقابة فلاحين من خطورة هذا الوضع وطالبنا بوضع خطط استباقية لامتصاص الفائض وتعديل السوق وأكدنا على ضرورة البحث عن أسواق عالمية جديدة وعدم الاقتصار على الاتحاد الأوروبي، فتونس تمتلك الإمكانات التي تسمح لها بدخول أسواق أخرى على غرار الأسواق الآسيوية والأفريقية.
السوق العالمية لزيت الزيتون أصبحت شديدة المنافسة، خاصة مع زيادة الإنتاج في دول أخرى مثل إسبانيا والبرتغال والمغرب. أين تتموقع تونس في خضم هذه المتغيرات؟
منذ العام 1964 اتجهت تونس نحو خوصصة قطاع زيت الزيتون، وبغض النظر عن الفوائد التي جناها المصدرون لأنفسهم إلا أنهم نجحوا في دخول أسواق عالمية هامة وبات زيت الزيتون التونسي في منافسة مع زيت الزيتون الإسباني والتركي وتحصل على العديد من الميداليات المهمة.
واليوم يحتل زيت الزيتون التونسي المرتبة الأولى عالميا من حيث الجودة والثانية من حيث الإنتاج والثالثة من حيث التصدير. ومن المهم المحافظة على هذا الموقع والعمل على تحسينه خاصة في ظل احتدام المنافسة مع دول كبرى منتجة مثل اسبانيا وإيطاليا واليونان، ودول أخرى التحقت بالركب مثل تركيا.
وهذه المهمة تتطلب بالدرجة الأولى الدخول في مرحلة التثمين وعدم الاقتصار على الإنتاج والرحي وبيعه سائلا، فتونس باتت تبيع غنيمتها لغيرها بأسعار تعتبر منخفضة جدا مقارنة بسعر التثمين.
على سبيل المثال، صدّرت تونس في السنة الفارطة أكثر من 190 ألف طن من زيت الزيتون، منها 26.483 ألف طن زيت معلب، وقد تم بيعها بأسعار مهمة تناهز 765 مليون دينار، علما وأن قيمة المعلب تتجاوز ضعف قيمة السائل.
ما الذي يعيق تثمين زيت الزيتون التونسي؟
هناك عدة صعوبات تقف أمام بلوغ هذه المرحلة. فالأمر يتطلب موارد مالية وخططا استباقية والتفكير في دخول الأسواق العالمية في ظل المنافسة المحتدة خاصة على مستوى الاتحاد الأوروبي وبالأساس إيطاليا.
تصر إيطاليا دائما على شراء زيت الزيتون التونسي سائلا ثم تقوم هي بتثمينه وتبيعه لاحقا على أنه زيت إيطالي المصدر وتمكنت بالفعل من المنافسة به في الأسواق العالمية خاصة وأن زيت الزيتون التونسي بيولوجي بنسبة 75 بالمائة وجودته ممتازة بفضل العوامل المناخية الجيدة.
ولهذا الأسباب تنبه نقابة الفلاحين التونسيين إلى ضرورة إيلاء هذا القطاع الأهمية القصوى وتثمين ثرواتنا بأنفسنا.
موسم الحبوب انطلق منذ شهرين تقريبا، وقد رافقته اشكاليات على مستوى التزود بالأسمدة والبذور.. هل وقع تجاوز هذه الاشكاليات؟ وكيف تتوقع حصاد الموسم القادم؟
موسم الزراعات الكبرى يكاد ينتهي، فقد تجاوزت نسبة البذر الـ 80 بالمائة. بالنسبة لأزمة البذور وقع تجاوزها، ولكن الإشكال مازال قائما على مستوى توفير مادة الأمونيتر التي تساهم في نمو الزراعات.
لقد سبق وطالبت النقابة الجهات الرسمية المعنية بإقرار تسهيلات للمزارعين والتخلي عن الشروط الإدارية المعقدة التي ترافق الحصول على هذه المادة وتصعب مهمة الفلاحين.
بالنسبة لموسم الحصاد، من السابق لأوانه الحديث عن تقديرات. فكل المفاجآت واردة، خاصة في ظل التغيرات المناخية. ففي العام الماضي توقعنا تسجيل صابة قياسية ثم تقلصت الإنتاج بسبب قلة التساقطات المطرية.
ما هو تقييمكم لوضع قطاع الفلاحة في تونس اليوم من حيث الإنتاجية والمساهمة في الاقتصاد الوطني؟
لا يمكن لإثنين أن يختلفا حول المساهمة المهمة لقطاع الفلاحة في الاقتصاد التونسي، إذ تبلغ مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي نحو 12 بالمائة متقدما بذلك على السياحة والصناعة، فضلا عن طاقته التشغيلية الهامة.
80 بالمائة من المجتمع التونسي هو مجتمع ريفي، وهذا المجتمع الهش هو الذي يبني اقتصاد البلاد ويضمن الأمن الغذائي للتونسيين والتونسيات وبالتالي أمنهم القومي.
وهذا القطاع صلب وقادر على الصمود في وجه الأزمات، وخير دليل على ذلك هو جائحة كورونا التي عصفت بالعديد من القطاعات وكبّدت لها خسائر ضخمة، باستثناء قطاع الفلاحة الذي ساعد بطريقة أو بأخرى في الحفاظ على مقومات الاقتصاد التونسي.
كيف يمكن للقطاع الفلاحي المساهمة في تحقيق الأمن الغذائي الوطني وتعزيز الصادرات؟
من المطالب الأساسية التي تتشبث بها نقابة الفلاحين التونسيين هي دعم الإنتاج المحلي الذي يمكن أن يقلص من التعويل المفرط على الاستيراد.
القطاع الفلاحي في تونس يمتلك الإمكانات اللازمة التي يمكن أن تحقق الاكتفاء الذاتي في العديد من القطاعات. فعلى سبيل الذكر لا الحصر نجحت تونس في تسجيل فائض في إنتاج الحليب يقدر بـ 400 ألف لتر يوميا، وبلغ المخزون الاستراتيجي 60 مليون لتر، إلى درجة أنه وقع إتلاف كميات هائلة من الحليب. والسؤال هو لماذا عادت تونس إلى استيراد الحليب وهي التي حققت وفرة في الإنتاج المحلي من هذه المادة.
يجب الإشارة إلى أن هذه الوفرة تحققت بفضل مجهودات الدولة نفسها التي شجعت هذا القطاع منذ السبعينات وشجعت المنتجين وقدمت لهم المنح اللازمة للإنتاج، ونجحت في تكوين حلقة إنتاج صلبة حققت بفضلها أرقاما قياسية. وهذا دليل على أن تحقيق الاكتفاء الذاتي ممكن وليس حلما بعيد المنال.
المطلوب من السلطات التونسية اليوم هو أولا دعم صغار الفلاحين وثانيا مراجعة الخارطة السياسية في الفلاحة وتجديد القوانين التي تعود إلى فترة السبعينات ولم تعد مواكبة لمستجدات القطاع ولا حتى للتغيرات المناخية.
أجرت الحوار: مريم جمال